18 أبريل، 2019


من المتعارف عليه في أبجديات العلوم السياسية أن يؤدي الجانب الشخصي دوراً كبيراً في صناعة القرار على الصعيد الداخلي وعلى الصعيد الدولي ، والذي قد يسهم بدرجة أو بأخرى في توقع ذلك القرار وتحليل نتائجه أكثر من أي عامل أو متغيير آخر .فالسمة الشخصية والأيديولوجية التي يؤمن بها متخذ القرار من الممكن أن تؤثر وتترك بصماتها على القرارات السياسية الخارجية بأعتبار أن الدولة هيكل قانوني يقوم عليه مجموعة اشخاص يتخذون القرارات بأسمها أو ما يسمى بظاهرة تشخيص الدول . فالدور الرسمي والكارزمي الذي قد يتمتع به متخذ القرار من الممكن أن يسهم في خلق جاذبية شعبية لقراراته على صعيد البيئة الدولية .ومن هنا تنطلق فرضية بحثنا من فكرة اساسية مفادها أن التنوع والأختلاف في صناعة القرار الدولي والمحلي يكمن في الأختلاف الموجود بين صناع القرار في المعتقدات والقيم التي يؤمنون بها والتي تؤثر على توجهاتهم وسياساتهم .

فلاديمير بوتين

أ ) الولادة والنشأة

ولد فلاديمير بوتين ذي الأصل الروسي سنة ( 1952م ) في مدينة ( سان بطرسبورغ ) التي تعد عاصمة روسيا الأتحادية الشمالية ، حيث نشأ ( بوتين ) في وسط عائلة متواضعة الدخل ، وكان الصغير بوتين يعشق ممارسة رياضة ( السامبو ) وهي أحدى رياضات المصارعة الروسية المشهورة بالدفاع عن النفس ، ثم تحول بسرعة إلى بطل رياضي في هذه المصارعة ثم أستاذاَ لها ، ثم مارس رياضة الجودو وحصل فيها على الحزام الأسود كما فاز بالعديد من البطولات في (سان بطرسبورغ).
بعد اكمال دراسته الأولية التحق ( بوتين ) بكلية الحقوق التابعة للدولة وكتب فيها بحثاً للتخرج وبعنوان ( مبادىء الدول الناجحة في المجال الدولي ) ، ثم ألتحق بعد تخرجه سنة ( 1975م ) بجهاز امن الدولة (KBG) فرع مدينة ( لينينغراد ) ، ثم عمل مديراً لدائرة الصداقة السوفيتية الألمانية في ألمانيا لمدة خمس سنوات ، ثم أصبح ضابط أحتياط برتبة مقدم سنة ( 1990م ) ثم مساعد رئيس الجامعة التي تخرج منها سابقاً(1) . وفي سنة (1994م) تولى ( بوتين ) منصب النائب الأول لرئيس حكومة سان بطرسبورغ وحصل بموجبها على صلاحيات واسعة وساهم في تطوير المدينة عمرانياً وأمنياً ، وفي سنة ( 1996م ) حصل على درجة الدكتوراة في مجال التخطيط الاستراتيجي والنمو الأقتصادي ليصبح فيما بعد شخصية نافذة وحاسمة في الحياة السياسية والاقتصادية في مدينة سان بطرسبورغ(2) .ثم تقلد بعدها العديد من
1) Richard Sakwa , putin : Russia choice , routledge , new York .2,ed , 2008 , p\9\ .
2) لمى مضر الإمارة ، المتغيرات الداخلية والخارجية في روسيا الاتحادية وتأثيرها على سياساتها في منطقة الخليج العربي 1990 -2003م ، ص 165 .

المناصب الحكومية

أنتمى ( بوتين ) إلى حزب ( روسيا الموحدة ) والذي تأسس قبل ثلاثة أشهر من الأنتخابات التشريعية الروسية في ديسمبر ( 1999م ) ، حيث كانت إيديولوجية الحزب قائمة على أساس قيم الحرية الفردية للمواطن الروسي والعدالة الاجتماعية ، والعمل على أساس المسؤولية الحقوقية التي تعني بالقبول الايجابي للحقوق . ومنذ تلك السنة سعى ( بوتين ) بعد ان تولى السلطة موقتا بعد ( يلتسن ) إلى تطوير الأقتصاد الروسي داخلياً وخارجياً ومضاعفته ( 10 مرات ) ، فضلاً عن محاربة الفقر وتطوير القوات المسلحة الروسية كي تصبح قادرة على الدفاع عن روسيا وإصلاح منظومة الضرائب وتحسين أجور العمال وظروف الهجرة والعمل ، وعلى الصعيد الخارجي اكد على ضرورة التعاون مع دول الكومنولث في كافة المجالات وإصلاح الجيش تحسباً لأي نزاعات أقليمية تضطر روسيا إلى حلها مستقبلاً ، والدفاع عن المصالح القومية الروسية في الخارج كأولوية أستراتيجية ضمن أطار القانون الدولي(3) .

سعى ( فلاديمير بوتين ) منذ ان تولى السلطة على القضاء على الأزمات الداخلية التي تعاني منها روسيا ومكافحة الفساد ومواجهة المافيات المسلحة ، وتشجيع الأستثمار وتطوير الصناعات العسكرية وإصلاح النظام المصرفي كمقدمات حاسمة للسياسة الخارجية الروسية . وعلى الصعيد الدولي عمل جاهداً على أعادة أدماج روسيا بالساحة الدولية للخروج من العزلة التي كان يتبناها الأتحاد السوفيتي سابقاً والذي ساهم بدرجة كبيرة في تاخير روسيا .

ب ) سمات فلاديمير بوتين الشخصية

ساهمت السمات الشخصية التي يتمتع بها ( بوتين ) الى لعب دور كبير في أعادة انتخابة لأكثر من ولاية رئاسية ، فهو شخصية تظهر عليه ملامح الشخصية الوطنية المهتمة بقضايا المجتمع الروسي في مدة اتسمت بها روسيا بالضعف الكارزمي لمن يقود نظامها السياسي وتحديداً مدة ولاية ( يلتسن ) ، وفي ظل وجود شخصيات روسية تتسم بالتهور الإيديولوجي امثال ( فلاديمير جيرينوفسكي ، يفغيني يفلنسكي ) ، في حين كان ( بوتين ) يملك فكراً أصلاحياً طموحاً ، فهو لم يقم بتغيير الدستور الروسي كي ينتخب مرة ثالثة بل رشح نفسه لمنصب رئيس الوزراء كي يكمل مساره الإصلاحي الذي قاده آبان رئاسته لروسيا مما يجعله صاحب دور رائد في قيادة روسيا إلى ما وصلت اليه الآن . هذه الشخصية نادراً ما تتعصب او تظهر عليها ملامح الفرح أو الحزن ولم تظهر عواطفها أمام شاشات التلفاز سوى مرة واحدة عندما توفى مدرس بوتين ومدربه في الكاراتيه ، إذ طلب من حمايته الخاصة عدم مرافقته ورجع للقصر الذي يسكنه منفرداً سيراً على الأقدام كتعبير لحزنه العميق .
كان ( بوتين ) أول رئيس روسي يتكلم اللغات الأجنبية بطلاقة ، فهو متكلم جيد في اللغة الالمانية
3) لمى مضر الإمارة ، مصدر سبق ذكره ، ص 168 .
والأنكليزية ، وهو ثالث رئيس روسي يمتلك شهادة في القانون ، ويتمتع بأنضباط عالي ومرونة عالية بالتكيف مع الظروف المتغيرة ، وصارماً في تطبيق القوانين التي طالما أعتبرها السلوك الصحيح لتطوير روسيا ، فوفقاً ل ( موخين ) أن هذه الشخصية تؤمن بالتفاوض لحل النزاعات لكن في الأزمات تصبح قوية وبشدة(4) . وهذه الشخصية تتمتع بحسن السمعة والإرادة القوية في روسيا وهذا الأمر نجده كذلك في الولايات المتحدة الأمريكية ، إذ نجد أعجاب أمريكي غير معلن لشخصية ( بوتين ) من حيث قدرته على ضبط النفس والتمتع بالثقة وعدم الأنجرار وراء الاستفزازات الأمريكية المستمرة في جورجيا وأوكرانيا ، وتعاملها معها بطريقة لينة بسبب كفاءته التنفيذية في إدارة الدولة دون الحاجة لأحتكاك عسكري مباشر او غير مباشر مع الجارة الأمريكية ، مما مكن روسيا من تجاوز العديد من الأزمات الداخلية والخارجية .

ج ) موقف بوتين من القضايا الدولية

كان مجيء ( بوتين ) الى السلطة عام ( 2000م ) بمثابة رصاصة الرحمة التي أطلقت على أسوء عقود الضعف التي مرت بها روسيا في التاريخ الحديث ، إذ كان الاعتقاد السائد أن روسيا في عهد فلاديمير لن تكون بأفضل حال من سلفه ( يلتسن ) ، لكن الأمر تغير عندما سعى ( بوتين ) إلى وضع عدد من المبادىء التس ساهمت في تطوير روسيا في النظام الدولي ، وعدم السماح للولايات المتحدة بتهميش الدور الروسي على صعيد العلاقات الدولية . إذ رأى أن روسيا لا يمكن أن تستعيد مكانتها الدولية كقوى كبرى ما لم تتجاوز حالة المساعدات الخارجية وأزماتها الاقتصادية بالاعتماد على مواردها الذاتية ، ومن هنا بدأ ( بوتين ) جاهداً بترتيب أوراق الأستقرار الروسي والاقتصادي الداخلي كمنطلق لتوظيفها في السياسة الخارجية مما ساهم في زيادة فاعلية الدور الروسي على الصعيد الدولي .

هذه الأجراءات جعلت الكثير من السياسيين الامريكيين يسترجعون ذكريات الحرب الباردة وأن روسيا ولدت من جديد عندما تولي ( بوتين ) مقاليد حكمها .
على الصعيد الدولي وتحديداً فيما يتعلق بأبرز القضايا العربية ذات الأبعاد الدولية كان ( بوتين ) فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية يتبع سياسة ذات بابين ، الأول \ يسمح لروسيا تطوير علاقاتها مع الكيان الصهيوني ، الثاني \ يسمح في نفس الوقت دعم القضية الفلسطينية في المحافل الدولية وتطوير مصالحها مع الدول العربية ، وهذه السياسة سمحت لروسيا بتعزيز رصيدها الاقتصادي والاستراتيجي بعد أنهيار الاتحاد السوفيتي .

أما فيما يتعلق بالملف الايراني فكان موقف ( بوتين ) واضحاً جداً يتسم بالبراغماتية والمتجسد في دعم ملف إيران النووي وصولاً إلى دورها الواضح في تسوية ذلك الملف بأتفاق نووي سلمي .أما الشأن العراق فكانت روسيا من أشد المعارضين للحرب على العراق عام ( 2003م ) وموقفها هذا ادى إلى تراجع
4) نقلاً عن ، Richard Sakwa , o.p.cit , \p\ 17 .

المصالح الروسية في العراق بدرجة كبيرة بعد ان تم تغيير النظام السياسي في العراق بالقوة ، إلاَ أن هنالك محاولات عدة لأسترجاع الدور الروسي في العراق من بوابة الأستثمار في مجال الطاقة وعقود التسليح ودعم قوات الجيش العراقي في حربه ضد تنظيم داعش الإرهابي ، والذي تجسد في حلف رباعي أمني أطرافه ( العراق ، ايران ، روسيا ، سوريا ) ، ومركز الحلف في بغداد تكون رئاستة دورية حسب الترتيب الابجدي لأسماء الدول المشاركة به .

على صعيد الحراك الشعبي العربي ( الربيع العربي ) كان موقف ( بوتين ) حذراً في التعامل معها لحين أنضاج المواقف وإزاحة الأنظمة القائمة كما حدث في ( مصر ، تونس ) ، أما موقفه من احداث ( البحرين ، اليمن ) كان حيادياً نوعاً ما ويتسم بالبطء في ردة الفعل .

أما الموقف الروسي من الإزمة السورية فقد كان منتظم وواضح والذي تحكمه عدة توجهات منها أن سوريا لها الامكانات لتؤدي دوراً فاعلاً في منطقة القوقاز وآسيا الوسطى والذي من الممكن أن يتم أدماجه مع الدور الروسي وتوظيفه إزاء الملف النووي الإيراني ، فضلاً عن أن سوريا أحد أهم شركاء روسيا التجاريين بحوالي ( 20 ) مليار دولار سنوياً ، فالدعم الروسي لسوريا أصبح عسكريا في الوقت الراهن والذي لم يتخذ لدعم نظام ( بشار الأسد ) بقدر ما هو مصلحة روسيا القومية وهو ما أكد عليه ( بوتين ) من أن (( موسكو ليست منشغلة ببقاء الأسد بقدر ما هي تسعى جاهدة إلى مكافحة الإرهاب ودعم التسوية السياسية العادلة )) .

 

المصدر : مركز الشرق الأوسط للاستشارات السياسية والاستراتيجية (MenaCC)