عنوسة الايرانيات تدفعهن الى خطبة الاموات

بين الأحياء والأموات في إيران ... رابطة روحية أم أزمة أخلاقية؟! أحداث مهمة

30 ديسمبر، 2019


30 ديسمبر 2019

إعداد: د/ إبراهيم سعد عبد العزيز

كلية الآداب – جمهورية مصر العربية

 

ملخص الدراسة: انتشرت خلال الأشهر الماضية على وسائط التواصل الاجتماعي منشورات لفتيات إيرانيات، معظمهن أعضاء في ميليشيا قوات التعبئة الشعبية (البسيݘ) التابعة للحرس الثوري، وهنّ يعلنن خطبة أنفسهن لجنود إيرانيين قُتلوا إبّان الحرب العراقية الإيرانية (1980: 1988)، وكذا في العمليات العسكرية التي نفذتها قوات إيرانية في سوريا والعراق خلال السنوات القليلة الفارطة. وقد أثارت هذه المنشورات جدلًا محمومًا على المنصات الاجتماعية الإيرانية بين متعاطف ومستنكر.

 

بدأ النقاش حول هذه الظاهرة عقب تغريدة بدت غريبة للصحافي “بهنام قلي پور” – رئيس تحرير موقع “دیگربان” المعارض – قال فيها: “منذ سنوات طِوال نرى “فتيات حزب الله” [يقصد الفتيات الإيرانيات المحافظات والمواليات للنظام] يحرصن على زيارة مقابر الشهداء في جبانة “بهشت زهرا – جنة الزهراء” جنوبي طهران، وتختار كل فتاة شهيدًا لتتخذه صديقًا ولترتبط به “ارتباطًا سماويًّا”.([1])

ولم تكد تنتشر تغريدة “قلي پور” حتى تواترت على منصّات التواصل الاجتماعي منشورات تظهر صدق ما زعم؛ حيث نشرت فتاة إيرانية في حسابها على “تويتر” صورة لجندي إيراني وصفته بـ “شهيدي”، وغرّدت سائلة: “هل من فتيات أخريات ارتبطن بـ “صداقة” مع الشهداء؟”، ثم دعتهُنّ لمشاركة صور “الأصدقاء الشهداء” على منصات التواصل. وتفاعلاً مع هذه التغريدة، نشرت عشرات الفتيات صورًا وتفاصيل عن “معشوقيهنّ من الشهداء”.([2])

 

 

هذا كما نشر مغرّد يدعى “مهران محمدي” – يُعرّف نفسه بأنه “ناشط سياسي” يقيم في أصفهان – تغريدة أقرب إلى روايات اللا معقول، تحدث فيها عن لقاء جمعه بطريق الصدفة مع فتاة عند قبر جندي يُدعى “مسعود” في مقبرة “جلستان”، وعندما سأل الفتاة عن قرابتها للجندي الشهيد، أجابته قائلة إنها خطيبته. فذُهل من ردها وقال إن هذا الجندي تحديدًا لم يكن مرتبطا بأية فتاة قبل موته. فقالت له إنها تنتمي إلى مجموعة من فتيات “البسيݘ” اللائي يختطبن للشهداء ويرتبطن بهم بـ “رابطة روحية”.([3])

وقد أثارت هذه الشهادات وتلك التغريدات ردود فعل عاصفة على الشبكات الاجتماعية؛ حيث عبّر معظم المتابعين عن صدمتهم وذهولهم من هذه الظاهرة الغريبة، لدرجة أن بعضهم شكّك في موثوقية تلك المنشورات. بينما وصف كثير من المتابعين أولاء الفتيات اللواتي يخطبن أنفسهنّ للشهداء بأنهن “مختلات عقليا” ويعانين من أمراض “اشتهاء الموتى – Necrophilia” و”اقتناء جمادات للإشباع الجنسي – Fetishism” وغيرها من حالات الشذوذ النفسي.([4])

وعلق آخرون بردود تسخر من هؤلاء الفتيات وما إذا كان واردًا أن يحْمَلْن من أحبائهن الموتى. فيما تساءل أحد المغردين مازحًا عما إذا كان يستطيع بوصفه رجلا مسلما أن يتزوج بأربع نساء شهيدات ويحصل على الدعم المالي من “صندوق الشهيد الإيراني” الذي يقدم العون لأسر ضحايا الحرب.([5])

بل إن المغردين الذين تعاطفوا مع أولائك الفتيات وقدّروا مشاعرهن تجاه الشهداء، أعربوا في الوقت نفسه عن تحفظهم الشديد على طريقة تعبيرهنّ عن تلك المشاعر، قائلين إن تصرفات هؤلاء الفتيات تنال من هيبة الشهداء وعظيم مكانتهم في النفوس، هذا فضلا عن تعارضها مع مبادئ الإسلام وأحكامه. بينما قال أحد المغردين إن تخليد ذكرى الشهداء له وسائل عديدة أفضل كثيرا مما فعلته أولاء الفتيات، فهن بما فعلن قد استهزأن بذكرى الشهداء وجعلنها مثارا للسخرية.([6])

على الجانب الآخر رأى متابعون محسوبون على تيارات المعارضة الإيرانية أن هذه الظاهرة اللا مسبوقة تكشف عما تعانيه الجمهورية الإسلامية والموالين لنظامها الحاكم من عمق الأزمة الأخلاقية وفداحة المأزق القيمي في ظل حكم ثلة من رجال الدين الراديكاليين. ففي تعقيب لأحد المغردين قال: “إن ما نراه الآن ليس سوى نتيجة منطقية لسياسات الجمهورية الإسلامية التي تنشر ثقافة “عشق الموت” على حساب ملايين الأحياء”.([7])

 

فيما تحسّر مغرد آخر على الحال التي آلت إليها إيران قائلا: “إن البلاد تتحول بمرور الوقت إلى مستشفى ضخم للأمراض النفسية تضم عشرات الملايين من المرضى”.([8])

 

ينما شبّه عدد من المغردين هذه الظاهرة المتشنجة بظاهرة “جهاد النكاح” المنسوبة إلى مقاتلي تنظيم الدولة “داعش” حين أجبروا النساء اللاتي أسروهن على الخضوع لشهواتهم الجنسية.([9])

وفي سياق الرد على نشرِ فتيات “البسيچ” صورَ خُطَّابهن من شهداء الحروب، نشر عدد من المغردين صورا لعشرات الضحايا المدنيين الذين سقطوا في اشتباكات مع قوات الأمن الإيرانية لا سيما في أثناء الاحتجاجات الشعبية الواسعة التي شهدتها البلاد صيف عام 2009 في إطار ما عُرف بـ “الثورة الخضراء”.

 

ومن بين الصور التي انتشر على نطاق واسع صورة الشابة “ندا سلطان” التي قُتلت برصاص قوات الأمن وأصبحت منذ ذلك الحين أحد أبرز أيقونات الحراك المعارض.([10]) بتلك الطريقة عبر هؤلاء المغردون عن رأيهم بأن ضحايا القمع السياسي للنظام الإيراني يستحقون أن يعترف بهم المجتمع والسلطة شهداءً.

أما على الصعيد الرسمي فقد دفع الصخب المجتمعي حول هذه الظاهرة بعض الممثلين الرسميين للنظام للتعليق عليها؛ حيث صرّحت “مينو أصلاني” رئيسة البسيݘ النسائي في مقابلة مع وكالة “إيلنا” للأنباء أنها لا تعرف شخصيًّا أية فتاة فعلت هذا الأمر، ولكنها أعربت عن شجبها الكامل لهذه الظاهرة. ووصفت “أصلاني” الفتيات اللائي أعلن خطبتهن للشهداء بأنهن واهمات ومضطربات نفسيا بما يحتم عليهن مراجعة الطبيب، وأكدت أن ثقافة احترام الشهداء أمر محمود ومرغوب، لكن المذموم والمرذول فعلا هو تطوير الاحترام إلى عشق وخِطبة. بينما عبرت “زهراء ساعي” النائبة في مجلس الشورى الإسلامي عن رفضها لهذه الظاهرة واصفة إياها بـ “الخطيرة”، ودعت السلطات إلى سرعة التصدي لها، مشيرةً إلى أنه من العبث والسُّخف أن تُقْدِم فتاة حية على خطبة نفسها لشخص ميت، وأنها بوصفها واحدة من عائلات الشهداء ترى في هذه الظاهرة جرحًا لكرامة من بذلوا أنفسهم دفاعًا عن الوطن ومصالحه. وأضافت “ساعي” في تصريحاتها لوكالة “إسنا” للأنباء: “أن ثقافة الشهادة أمر مقدس ومنصوص عليه في ديننا الحنيف، ولكن الترويج لأفكار منحرفة من قبيل “خِطبة الشهداء” من شأنه أن يضع شهداءنا الأبرار في موضع السخرية والتهكم”.

وعلى الرغم من أن ظاهرة “خطبة الشهداء” تبدو محدودة، إلا أن الأصداء التي ترددت حولها على المنصات الاجتماعية تدل دلالة واضحة على فرط الحساسية إزاء قضية الشهداء، سواء من جانب النظام الذي لا يألو جهدا في تخليد ذكراهم،([11]) أو من جانب عامة الناس. وقد استثمر النظام هذه الحساسية التي تكشفت في الخطاب العام لتعزيز ثقافة الاستشهاد رغبةً منه في تعبئة الجماهير ولملمة شتاتهم حول القيم الوطنية الجامعة. وهكذا فإن هذه الظاهرة أكدت من جديد أن الشبكات الاجتماعية هي الأرض الخصيبة التي تنمو فيها جميع الظواهر المجتمعية الغريبة التي تفضح قيم النظام وتكشف عورته.

وختاما أعتقد أن هذه الظاهرة الإيرانية الخالصة (Made in Iran) ليست سوى عرض جانبي لبعض الأمراض الاجتماعية المتفشية في إيران والتي يأتي في مقدمتها ارتفاع نسب تأخر الزواج والعنوسة إلى حدود غير مسبوقة، وقد ناقش بعض الباحثين هذه القضية في دراسات مستقلة.([12]) وليس بالإمكان في هذا السياق إغفال أمراض اقتصادية وفكرية مثل الفقر وتدني الأوضاع الاقتصادية والانسياق الأعمى خلف المراجع الدينية.

د.ابراهيم سعد عبد العزيز محمد، أستاذ بكلية الاداب بجمهورية مصر، باحث مشارك متخصص في الدراسات العبرية والايرانية

 

أهم التغريدات الايرانية التي تناولت الظاهرة:

 

المصادر :

([1]) https://twitter.com/beehnam/status/1058309484106399744 Accessed on 09 December 2019.

([2]) https://twitter.com/maraljanam/status/1063486109387231233 Accessed on 09 December 2019.

([3]) https://mobile.twitter.com/mehr1789/status/1076054504406056960 Accessed on 13 December 2019.

([4]) https://mobile.twitter.com/Elesa_oland/status/1077337955755147264 Accessed on 15 December 2019.

([5]) https://twitter.com/Babak_in_Exile/status/1078417373621821440 Accessed on 15 December 2019.

([6]) https://twitter.com/mahdiayyarian/status/1063551476218425348 Accessed on 15 December 2019.

([7]) https://twitter.com/Toranj182/status/1058999708830568448 Accessed on 09 December 2019.

([8]) https://twitter.com/Alaki__Khosh/status/1058327942449762306 Accessed on 10 December 2019.

([9]) https://twitter.com/ebrahim_khani/status/1076360748220276736 Accessed on 09 December 2019.

([10]) https://twitter.com/gandomgoun/status/1076819905473859586  Accessed on 09 December 2019.

([11]) انظر في هذا السياق: راز تسيمت: “نصب تذكاري في الواقع الافتراضي: تخليد ذكرى شهداء إيران في الحرب السورية”، دورية Bee Hive لقياس نبض المنصات الاجتماعية في الشرق الأوسط، مركز موشية ديان لدراسات الشرق الأوسط وإفريقيا – مركز أليانس للدراسات الإيرانية، جامعة تل أبيب، مجلد 4، عدد 6، يونيو حزيران 2016. (بالعبرية)

([12]) انظر على سبيل المثال: راز تسيمت: “تأخر سن الزواج … أزمة خانقة لشباب إيران”، مركز التفكير الإقليمي، سلسلة “قضية للتأمل”، عدد 6، أكتوبر تشرين الأول 2016، صـ 1: 14. (بالعبرية)