- الجائحة تتسبب في قفزة لنسبة الفقراء والعاطلين عن العمل
- تراجع مؤشرات العدالة الاجتماعية الى أدنى مستوياتها منذ نحو 40 عاماً
- توقعات بزيادة انخفاض مؤشر رفاهية المواطنين
- زيادة رصد ظاهرة نزوح الأثرياء من العاصمة التونسية
- تضاعف تمدد حزام المناطق الفقيرة في ضواحي العاصمة وتطويقها للأحياء الراقية
- فقدان البلاد للسيطرة على تفشي فيروس كورونا قد يكون مقدمة لارتدادات غضب شعبي واسع
- تراجع فرص خلق الثروات بالنسبة للأفراد والأسر وانخفاض التزام القطاع الخاص بمقاومة الفقر
- تعثر التنمية بزيادة وتيرة التغيير وعدم الاستقرار الحكومي
- تسييس الإدارة التونسية سبب تعطل التنمية ومحدودية الاستجابة لتطلعات المواطن
ادارة توقعات المخاطر
مركز MenaCC
10 يوليو 2021
الملخص التنفيذي: يدفع خروج مسار جائحة فيروس كورونا covid19 بسلالاته المختلفة عن سيطرة الدولة التونسية الى استشراف تغير توقعات مؤشرات التنمية برمتها في البلاد. حيث زادت التوقعات بدخول نحو ثلث التونسيين دائرة الفقر بحلول 2024 مع ترجيح نمو معدلات البطالة لتشمل نحو أكثر من نصف الشباب، كما تراجعت مؤشرات العدالة الاجتماعية الى أدنى مستوياتها منذ ثورة الخبز في 1984.
وفي ظل انسداد أفق الحوار ودعوات لتغيير النظام والدفع الى انتخابات مبكرة، يسهم الخلاف السياسي المحتدم وعدم الانسجام المؤسساتي وكلفة الوباء الضخمة في ترجيح ردة فعل شعبية غاضبة وفوضوية قد تكون على شكل احتجاجات تحركها شعارات انتقامية من وضع معيشي متردي يفاقمه تراجع مؤشرات العدالة الاجتماعية والاقتصادية.
وقد يكلّف احتمال عدم استقرار تونس أو تسجيلها لفرضية انتفاضة شعبية على غرار 2011 احتمالات انتقال بواعث عدم الاستقرار لبقية الدول العربية خاصة المجاورة أو تلك التي تشكو مدركات ضعف الاستقرار بسبب تداعيات الوباء أو هشاشة الوضع السياسي والاجتماعي.
وهذه الفرضيات باتت ترصدها وتتوجس منها منظمات أممية وقوى دولية واقليمية كالولايات المتحدة الأمريكية والصين وبلدان الجوار ودول الاتحاد الأوروبي بالدرجة الأولى والتي سرّعت من سياسات التدخل الطارئ لدعم تونس في الأشهر الأخيرة ومنع انحراف المسار الديمقراطي المتعثر. وتدعم جهات دولية اتجاهات عدم اقصاء أي طرف سياسي في تونس والحفاظ على الحد الأدنى من التعايش والتوافق ودعم آليات دولة القانون والمؤسسات ومحاربة الفساد.
وحسب خلاصة الجزء الثاني من تقرير (MenaCC) حول تقييم توقعات المخاطر في تونس يصدر في شهر يوليو 2021 أعدته إدارة توقعات المخاطر في مركز الشرق الأوسط للاستشارات السياسية والاستراتيجية، فانه مالم تحدث تغييرات سياسية عاجلة وجذرية وعميقة مع تفعيل حوار وطني شامل على المدى القريب، فقد تدخل تونس دائرة التوقعات المقلقة جداً مع بواعث مخاطر مرتفعة بخصوص آفاق الاستقرار.
ورغم محاولات “الإنقاذ الهش” التي تسارع لها الحكومة قبل فقدان السيطرة على الغضب الشعبي والوضع الوبائي الكارثي وتداعياته وعدم الاستقرار السياسي والوضع الاقتصادي المتردي، زاد رصد معدل الأخطاء السياسية المتسببة في ارتباك إدارة الاستقرار الهش الحالي. وفي مقابل جهود دولية لمنع حدوث مقدمات لانتفاضة شعبية جديدة في تونس عبر زيادة دعم البلاد مالياً ولوجيستياً وتخصيص منح ضخمة لدعم اجتماعي عاجل لمواطنيها والتعهد بتحفيز الاستثمار الأجنبي اليها وتقديم تسهيلات أكبر للحصول على جرعات اللقاح والمعدات الصحية، الا أن بواعث عدم الاستقرار تبقى قوية ومقلقة، حيث انخفضت بحدة مؤشرات التنمية وتراجعت فرص تحسين ظروف العيش بالنسبة للأفراد والأسر التونسية المهددة بزيادة الفقر والتهميش وعدم مساواة الأفراد في نصيبهم من الثروة.
مخاوف فعلية من انفجار صراع طبقي
خطر وشيك على المدى القريب والمتوسط يتهدد السلم الاجتماعي في تونس، حيث ان خطر التفكك الاجتماعي والتصادم الطبقي بات مرتفعاً وينظر اليه كتهديد مقلق للغاية ومؤثر على توقعات الاستقرار السياسي والاجتماعي والاقتصادي.
وقد تم رصد تفاقم حجم الهوة بين الطبقات الاجتماعية في تونس. اذ ارتفعت بشكل متسارع نسبة الفقراء لتقترب في أفق 2024 من أكثر من 30 في المئة[1]، في المقابل بقيت نسبة الأثرياء محدودة في حين زاد حجم ثرواتهم. حيث ظلّ توارث مصادر الثروة بين فئة محدودة من المجتمع يعتبر أهم محفز لخلق الثروات الفردية في تونس.
وقد أسهم التفاوت الاجتماعي المرصود بسبب محدودية المساواة في توزع الثروة في تونس في خلق بيئة تناقض قد تؤدي الى تصادم طبقي. اذ تم رصد تضاعف نسبة التمدد العمراني للأحياء الفقيرة خاصة في المناطق القريبة من العاصمة مع استمرار البناء الفوضوي وهو ما شكل أحزمة سكانية ملتهبة تطوق اليوم أغلب المناطق الراقية، وهذا التحدي يشكل مخاوف حقيقية من زيادة فرص التصادم الطبقي. ونتيجة ذلك زادت موجة نزوح الأثرياء من المناطق القريبة من العاصمة بسبب زيادة الطلب على الأمن مع مخاوف من ارتفاع مؤشرات الجريمة كالسلب والنهب.
على صعيد آخر، في مقابل تقلص مدخرات أغلب الطبقات الفقيرة والمتوسطة منذ 2011 بسبب الاقبال على الاستهلاك ومجاراة التضخم المعيشي، حافظت طبقة الأثرياء على نمو مصادر الثروة المستمدة من انشطة اقتصادية وملكيات عقارية والتي تسيطر عليها تكتلات عائلية بالأساس. اذ يغلب على الاقتصاد التونسي نموذج الشركات العائلية[2]. في المقابل فان عدد الأثرياء الجدد في تونس سنوياً يعتبر محدوداً جداً، فبيئة أعمال تونس تصنف على أنها لا تساعد على تفريخ أثرياء جدد بالنظر لعوائق البيروقراطية بالنسبة للمبادرين الجدد واستمرار هيمنة التكتلات العائلية على الأنشطة الاقتصادية مع مظاهر احتكارية لمبادرات الأعمال مع ضعف تشريعي في ضمان حقوق المنافسة.
ولا تحفز بيئة الاستثمار والبيروقراطية الإدارية والنقص التكنولوجي الأفراد على صنع مصادر ثروات في مجالات مبتكرة وبمبادرات فردية. وبذلك فان إمكانية خلق الفرد للثروات في تونس محدودة جدا بالنظر لتراجع وتيرة مبادرات خلق المشاريع مقابل الميل أكثر للعمل بالقطاع العام، حيث ماتزال ثقافة العمل في القطاع العام تهيمن على جزء كبير من الخريجين والشباب اليوم، فضلاً عن تأثير هجرة الكفاءات الوطنية على محدودية مبادرات خلق الثروات في البلاد. وتربط نسبة كبيرة من الشباب التونسي فرصة خلق الثروات بالهجرة. الا ان البلاد لا تستفيد بالشكل الأمثل من عوائد التونسيين في الخارج، حيث أن نسبة قليلة جدا من تحويلات المغتربين تدخل النشاط الاقتصادي مع مساهمة محدودة في التنمية. ويعود سبب عزوف نسبة مهمة من التونسيين في الخارج عن الاستثمار في مبادرات مشاريع في بلادهم الى محدودية تحسن مؤشرات شفافية بيئة الاعمال ووجود نظرة مقلقة من افق الاستقرار السياسي وبيروقراطية الإدارة زيادة نسبة الضرائب وعدم اليقين بمدى بمحاربة الفساد.
وقد تسببت أخطاء سياسية مع تدخل الطبقات الاقتصادية في التأثير على صنع القرار في البلاد في حرمان الأفراد من فرص أكبر للتنمية وهو ما قاد الى توسيع الهوة بين الطبقات الاجتماعية، حيث تعمل نخب سياسية مدعومة اقتصاديا على حماية مصالح الأثرياء ورجال الأعمال وهو عمق حجم التفاوت الاجتماعي.
وتعتبر زيادة معدلات الفقر والبطالة مقابل زيادة حجم ثروات الطبقة الثرية مؤشر مقلق للغاية حول إمكانية تطور نوع من ردة الفعل الشعبية الغاضبة ازاء محدودية العدالة الاجتماعية وعدم تساوي الفرص في خلق الثروات، وهو ما قد يعتبر مقدمة لتطور احتجاجات وصراع طبقي عنيف في المدى القريب. اذ زادت الفوارق الصارخة بين الطبقات الاجتماعية. وفي ظل التهرب الضريبي للأثرياء، وتراجع التزامهم المالي في المشاركة في التنمية المحلية وتخيير بعضهم هجرة البلاد مع رؤوس أموالهم، زادت نسبة البطالة بين الشباب التونسي في القطاع الخاص.
كما مكنت انتفاضة 2011 من زيادة انحراف الاقتصاد التونسي نحو تنمية قطاعات استهلاكية استنزفت مدخرات المواطنين وقدمت تسهيلات أكبر من خلال طفرة في شركات الايجار المالي والبنوك لدفع نمو الاقتراض الاستهلاكي، في مقابل ذلك زاد نموذج الانفتاح على الاستيراد ما أغرق الأسواق الوطنية ببضائع أجنبية أسهمت في محدودية منافسة البضائع المحلية واغلاق مؤسسات وطنية كثيرة، وقادت في النهاية الى زيادة الاقبال على نموذج الاستهلاك واغراق المواطن في الديون بفضل زيادة التسهيلات الائتمانية الممنوحة. في المقابل ارتفعت نسبة دين الفرد التونسي مع تسجيل نسبة أكبر للتعثر في سداد القروض.
في مقابل ذلك لم تسعى الحكومات التونسية لتنمية الرأسمال الوطني أو بعث مشاريع وطنية عبر شراكة القطاع العام والخاص تستقطب البطالة، بل تراجعت مستويات الالتزام الحكومي بدعم المبادرات الشبابية التي تواجه نسبة كبيرة منها خاصة من صنف المشروعات الصغيرة والمتوسطة جراء الجائحة تعثرات ضخمة قادت كثير منها الى الإفلاس[3] وقد تسببت تداعيات ذلك في تقلص حجم ثروات الافراد والأسر محدودة الدخل.
تراجع فرص خلق الثروات بالنسبة للأفراد والأسر وانخفاض التزام القطاع الخاص بمقاومة الفقر
خلق الثروة بالنسبة للفرد والأسرة ما يزال أمرا معقدا وانتقائياً ويواجه صعوبات بيئة العمل التي تحكمها بيروقراطية متجذرة. وهناك مشاكل في توزيع الثروة وكيفية انتقالها في تونس.
وبالنسبة لانخفاض قدرة القطاع الخاص الوطني على استيعاب الموظفين مع استمرار الضغوط على تدني الأجور رغم تدخلات الاتحاد العام التونسي للشغل لتحسين دخل الفرد في القطاع الخاص، تم رصد تراجع سياسات القطاع الخاص في خلق مصادر تنمية مستدامة وجهود مكافحة الفقر في تونس، وذلك مقابل زيادة ميوله لممارسة أنشطة تجارية بقصد الربح السريع مع تقليص نسبة المخاطر في مشروعات تنموية بعيد المدى.
وفي إشارة الى زيادة اختلال سياسات الدولة المالية في إدارة وتوزيع الثروات، أثبتت دراسات[4] أن أكثر من 80 في المئة من التونسيين يدفعون ضرائب، حتى الأسر ذات الدخل المنخفض تدفع معدلات عالية نسبيًا من ضرائب الدخل الشخصي والمساهمات في الضمان الاجتماعي. ولتحسين تأثير أداء السياسة المالية على جهود الحد من الفقر، على الحكومة التونسية زيادة حصة الميزانية المخصصة لبرنامج التحويلات النقدية PNAFN وتحسين آلية توجيه الإعانات للفقراء[5].
وتضعف تداعيات جائحة كورونا من استراتيجيات مقاومة الفقر الآخذ في الارتفاع في تونس وتنذر بزيادة الاختلالات الاجتماعية[6] وخاصة على مستوى توزع الثروات وتوقع توسع الفجوة بين الطبقات الاجتماعية على مستوى حياة الرفاه. وهناك حاجة ملحة لمعالجة مصدر الاختلالات وزيادة مؤشر عم المساواة والتفاوت الاجتماعي. حيث تم تسجيل انخفاض حاد في مؤشرات حياة الرفاه للشريحة الكبرى للمجتمع التونسي حيث تراجع ترتيب تونس في مؤشر حياة الرفاه من 78 عالميا (2016) الى 99 (2020)[7]، مع ترجيحات قوية بتسجيل تراجع أكبر بدافع من تداعيات الجائحة.
التونسيون مقبلون على تحولات اجتماعية وسلوكية مقلقة: تراجع الرفاهية وزيادة الفقر والبطالة وانحراف التعليم
بقي متوسط دخل الفرد التونسي السنوي ضعيفاً (3300 دولار) مقارنة بمستوى التضخم ومتوسط القدرة الشرائية، وقد تراجع ترتيب تونس على مستوى نمو دخل الفرد من الناتج المحلي الإجمالي الى قبل الأخير على مستوى منطقة المغرب العربي، وضمن العشر دول الأخيرة عربيا بالمقارنة بعدد السكان والنمو الاقتصادي[8].
واضطرت الحكومة لرفع مستوى الضرائب على الافراد والمؤسسات. خلال الربع الأول من عام 2021، زادت الإيرادات الضريبية بنسبة 13٪ (على أساس سنوي). من ناحية أخرى، انخفضت الإيرادات غير الضريبية (-77٪) بشكل حاد[9].
ولا تستبعد توقعات المركز ان تنمو نسبة البطالة الى 20 في المئة بنهاية العام الجاري، وهذه النسب تضغط أيضا على ارتفاع نسب ظاهرة الفقر المتوقع بنسبة نحو 12 في المئة[10] ليرفع شريحة الفقراء من اجمالي السكان الى أكثر من 25 في المئة وفي أكثر السيناريوهات تشاؤما على المدى القريب قد تتجاوز نسبة 30 في المئة في المدى القريب مع افق 2025 ما يعني أن نحو أكثر من ثلث سكان البلاد مهددون بالانتماء الى شريحة الفقراء والأكثر فقرا. وهذا الاستنتاج لا يساعد على تصور استقرار اجتماعي بل يحفز على توقع تقلبات اجتماعية وسياسية.
كما تزيد هذه التوقعات من تحديات نمو نسبة معدلات العنف والجريمة بالإضافة لزيادة رصد احتمالات نمو ظاهرة الانقطاع المبكر عن التعليم وزيادة الطلب على العمل في سن مبكرة مع اتجاهات قوية للإقبال على الهجرة. وأكثر ما يبعث على القلق في توقعات الهجرة زيادة اقبال الاناث بشكل يتفوق أحيانا على الذكور على الهجرة، في دلالات استباقية لزيادة التفكك الاسري.
الى ذلك فان استمرار بيروقراطية الإصلاح وخاصة اصلاح التعليم وفق رؤية فرنكوفونية ينذر بأزمة عدم انسجام مخرجات التعليم في المستقبل مع تحديات نمو الاقتصاد العالمي ومجالات المعرفة التي باتت تشترط معارف لغوية أخرى أبرزها الإنجليزية والتي تعاني شريحة واسعة من الطلبة في تونس من محدودية مهارة اتقانها.
هذه المؤشرات يمكن أن تنمو بشكل يفوق التوقعات الحكومية في ظل عدم اليقين باستقرار البلاد الاقتصادي والاجتماعي ونهاية أزمة الوباء.
ومع غياب خطة طوارئ اقتصادية واجتماعية وانخفاض تدابير حكومية للتعويضات والرعاية الاجتماعية والصحية للطبقات الهشّة، من المرجح أن تضغط صدمة تداعيات جائحة كوفيد 19 وتضخم الأسعار واتجاهات رفع نسبة الدعم وتقليص الانتداب في القطاع العام على توقعات نمو مؤشرات رفاهية الأسرة في تونس التي قد تسجل مسارات تدهور. حيث من المرجح أن تتراجع قدرة الأفراد على رفع جودة الحياة مع زيادة ظهور بوادر أزمة سكن وأزمة عزوف عن الزواج بمبررات انخفاض القدرة المعيشية.
كما اعتبرت مفاوضات الحكومة التونسية الحالية مع النقابات العمالية في قطاعات حكومية مختلفة والتي قامت باحتجاجات عديدة تحت شعار تحسين الأوضاع المعيشية مقدمة لتراكم التوتر في المدى القريب إذا عجزت الحكومة عن الإيفاء بتعهداتها، حيث عمدت الى إدارة ازمة الاحتجاجات بمنطق الاستجابة السريعة والوعود التي تزيد من كلفة الانفاق العام، وقد يرهق تحقيق بعض هذه الوعود زيادة تعثر الموازنة المالية وهو ما يتناقض مع شرط تقليص حجم كلفة الأجور كمبدأ التزمت به الحكومة في مفاوضاتها مع صندوق النقد الدولي. وفي ظل تناقضات مسارات الحكومة بين صعوبة الحصول على التمويلات وتداخل أولويات الإنعاش، يزيد غموض مصير التنمية.
تعثر التنمية بزيادة وتيرة التغيير وعدم الاستقرار الحكومي
منذ تغيير النظام في تونس في 2011 تأثر العمل الحكومي بعدم الاستقرار وزيادة وتيرة التغيير الوزاري والاستقطاب السياسي بسبب الصراعات السياسية على الحكم والنفوذ وهو ما أدى لبروز ثقافة العمل المؤقت والشعور بعدم الأمان الوظيفي خاصة بين شريحة القياديين وهو ما أنتج بشكل عام تحديات سلوكية لدى الموظفين في القطاع العام أبرزها محدودية الالتزام بتحقيق الإضافة في العمل الحكومي.
وقد حفّز نقص الاستقرار السياسي المسبب لمحدودية انتظام العمل الحكومي المرتبط بالصراعات داخل الطبقة السياسية والمنظمات العمالية وفئة رجال الأعمال على رواج ثقافة العمل المؤقت” داخل المؤسسات وهو ما شجع نزعة كسب المصالح بتشريع الفساد الإداري والتربح من المناصب والافلات من العقاب.
ونظرا لبيئة عدم الاستقرار وتراجع مؤشر الثقة على المدى القريب في وضع الاستقرار في البلاد، تذيلت تونس ترتيب الدول العربية النامية على مستوى جذب الاستثمارات الأجنبية المباشرة، وخسرت حجم كبيرا من رؤوس الأموال الخارجية، كما أن تونس فقدت بشكل مستمر رؤوس أموال خيرت الهجرة من البلاد الى وجهات أخرى. فقد تضاعفت قيمة مخزون الاستثمارات ورؤوس الأموال المهاجرة من تونس للخارج من 287 الى 508 مليون دولار[11] أي أكثر من نصف مليار دولار، ما يضاهي 1.4 مليار دولار خرجت من تونس كاستثمارات في وجهات خارجية. وعلى عكس تونس التي خسرت نحو 20 في المئة من صافي متوسط تدفقات الاستثمارات الخارجية الموجهة لها[12] رغم تحسن بيئة الاعمال بها[13] صنفت في المقابل الامارات والسعودية والمغرب ومصر بين أهم الوجهات العربية التي استقبلت استثمارات أجنبية. من جهة أخرى، صنفت تونس البلد العربي الوحيد الذي تراجعت قيمة مخزون استثماراته الأجنبية فيه بنحو ملياري دولار[14]، في المقابل سجلت أغلب الدول العربية النامية قفزة في مخزون استثماراتها الأجنبية.
وتضعف مؤشرات الفساد والمخاوف من آفاق الاستقرار السياسي والاجتماعي في البلاد وتداخل صلاحيات المؤسسات من نقاط جذب بيئة العمل التونسية في المدى القريب.
وبقدر ما قدمت الحكومات تسهيلات للاستثمار الأجنبي بقصد تسهيل بيئة الاعمال، لم توفر مناخ أعمال مريح وضمانات مشجعة للمستثمر الوطني في ظل منافسة شديدة للسلع المستوردة، حيث عرضت سياسات الانفتاح الاقتصادي التي اتبعتها الحكومات المتعاقبة بعد ما يسمى بالثورة أو الانتفاضة الشعبية في 2011 مخزون الاستثمار الوطني للخطر، اذ تراجعت نسب المبادرات في إطلاق مشاريع التي تعاني نسبة كبير منها من الضعف والترهل والضغوط الضريبية بجانب ضغوط المنافسة الخارجية القوية. حيث خسر جزء من المستثمرين الوطنيين الصغار نسبة من السوق الاستهلاكية المحلية التي عرفت زيادة حضور سلع أجنبية منافسة. وكان للتحالفات السياسية الخارجية لتونس وقع على زيادة تراجع نسبة حمائية اقتصادها وانكشافه أكثر على خطر ارتفاع المنافسة خاصة مع كل من تركيا والجزائر وقطر ودول أوروبية.
ويؤدي اختلاف الرؤى التنموية بين الحكومات المتعاقبة وتناقض التحالفات الاستراتيجية فضلاً عن زيادة تسييس الاقتصاد الى زيادة تأخر تنفيذ تطلعات السواد الأعظم من المواطنين.
تسييس الإدارة التونسية سبب تعطل التنمية ومواكبة تطلعات المواطن
شمل التغيير في تونس أغلب المجالات بعد انتفاضة 2011، الا أن البيروقراطية الإدارية والاجرائية ظلت دون تغيير وصامدة ضد الإصلاح. بل زادت محاولات تدجينها واستقطاب قيادييها من خلال لجوء بعض الأحزاب الحاكمة لبسط نفوذها في الدولة من خلال دعم تعيين مؤيديها داخل الإدارة من اجل اختراقها أو إعادة هيكلتها بهدف السيطرة واحكام النفوذ. ونتيجة ذلك باتت اليوم مسؤولة عن تعطل مسار التقدم والانتقال الديمقراطي والازدهار في تونس، اذ ظلت عوائق الولاءات وعدم تغير روتين الإجراءات والتطبيقات الإدارية البيروقراطية كلها غير منسجمة مع واقع التغيير الحاصل في البلاد والتطلعات الشعبية المنشودة. بل ساعدت بشكل غير مباشر في تفشي الفساد الإداري بغطاء قانوني. وما يمثل أكبر خطر على جهود مكافحة الفساد محالات استقطاب نخبة القانونيين في المؤسسات العامة والسلط.
ويمثل تشخيص العائق الإداري لجهود الإصلاح باعث على زيادة الحاجة لإعادة تأهيل أغلب القوى البشرية التونسية في الإدارة والمؤسسات بآليات التغيير المنشود في السلوك والاجراءات وطريقة التسهيلات الإدارية التي يتطلع اليها المواطن، الا أن هذا الهدف لا يمكن تحقيقه الا بانتقال الإدارة التونسية الى مرحلة الرقمنة والحوكمة. ويمثّل هذا التوجه أهم وسائل مكافحة الفساد ودعم الانتقال الديمقراطي.
وقد ثبت أنه بإهمال أولوية اجراء اصلاح اداري عاجل منذ 2011 ومحدودية الاستثمار في تعميم معايير مشتركة للتحول الديمقراطي لدى القوة البشرية العاملة في المؤسسات الحكومية بشكل خاص، فلا مجال لتوقع افق استقرار سياسي أو تحول عميق على المدى المتوسط، حيث يبقى التغيير تجميلياً وسطحياً في ظل عدم اصلاح منظومة اتخاذ القرار في الإدارة والمؤسسات التونسية من جهة والتأخر اعتماد حكومة الكترونية من جهة أخرى.
استنتاج عام: تفتقد تونس لاستقرار نخبتها الحاكمة المختلفة والمنقسمة والتي تشهد أيضا حدة الاستقطاب بين جبهتي مؤيدي الحفاظ على النظام البرلماني ومريدي النظام الرئاسي. ويدفع الوضع السياسي على خلفية تداعيات الوباء الى توقعات بانتخابات مبكرة وعدم استبعاد زيادة دعوات تغيير النظام السياسي برمته لعدم استجابته لتطلعات الشارع التونسي وخاصة الشباب حسب تحليل نوعي لمحتوى ردود الفعل المعلنة لشريحة من المستخدمين التونسيين خلال فترات متراوحة منذ يناير 2021 الى شهر مايو 2021.
2021 © مركز الشرق الأوسط للاستشارات الاستراتيجية والسياسية (MenaCC)
الهوامش:
[1] The World Bank in Tunisia, Update report, 2021, https://www.worldbank.org/en/country/tunisia/overview
[2] World Bank, The Unfinished Revolution Bringing Opportunity, Good Jobs And Greater Wealth To All Tunisians, Synthesis Development , Policy Review, May 2014, file:///C:/Users/IMED/Downloads/tunisia_report_the_unfinished_revolution_eng_synthesis.pdf
[3] IFC, Business Pulse Survey Tunisia Impact of the COVID-19 crisis on the private sector in Tunisia, December 2020, https://www.ifc.org/wps/wcm/connect/2f156c63-6e2b-4cbd-bd2d-348f8bcf53a9/Business+Pulse+Survey+Tunisia+ExecutiveSummary_BusinessPulseSurvey_Tunisia_ENG.pdf?MOD=AJPERES&CVID=noJLSNv
[4] Nizar Jouini, Nora Lustig, Ahmed Moummi, Abebe Shimeles, FISCAL POLICY, INCOME REDISTRIBUTION, AND POVERTY REDUCTION: EVIDENCE FROM TUNISIA, Review of Income and Wealth, Series 00, Number 00, Month 2018, DOI: 10.1111/roiw.12372, JEL Codes: D31, H22, I38, file:///C:/Users/IMED/Downloads/Fiscal_Policy_Income_Redistribution_and_Poverty_Re.pdf
[5] Nizar Jouini, Nora Lustig, Ahmed Moummi, Abebe Shimeles, FISCAL POLICY, INCOME REDISTRIBUTION, AND POVERTY REDUCTION: EVIDENCE FROM TUNISIA, Review of Income and Wealth, Series 00, Number 00, Month 2018, DOI: 10.1111/roiw.12372, JEL Codes: D31, H22, I38, file:///C:/Users/IMED/Downloads/Fiscal_Policy_Income_Redistribution_and_Poverty_Re.pdf
[6] Amal JMAII, Arafet FAROUKH, Exploring the determinants of welfare distribution in Tunisia and Egypt: Two revolutions two patterns two schemes, research article, published 2020, Fseg Tunis, https://www.gtap.agecon.purdue.edu/resources/download/9974.pdf
[7] Social Capital Index 2020, https://solability.com/the-global-sustainable-competitiveness-index/the-index/social-capital
[8] GDP per capita (current US$), World Bank national accounts data, and OECD National Accounts data files, 2019, https://data.worldbank.org/indicator/NY.GDP.PCAP.CD
[9] The World Bank in Tunisia, Update report, 2021, https://www.worldbank.org/en/country/tunisia/overview
[10] Deeksha Kokas, Gladys Lopez-Acevedo, Abdel Rahman El Lahga, Vibhuti Mendiratta, Impacts of COVID-19 on Household Welfare in Tunisia, World Bank, December 2020, https://openknowledge.worldbank.org/bitstream/handle/10986/34980/Impacts-of-COVID-19-on-Household-Welfare-in-Tunisia.pdf?sequence=1&isAllowed=y
[11] World Investment Report 2020 International Production Beyond the Pandemic, United Nations publication issued by the United Nations Conference on Trade and Development, UNCTAD/WIR/2020, https://unctad.org/system/files/official-document/wir2020_en.pdf
[12] World Investment Report 2020 International Production Beyond the Pandemic, United Nations publication issued by the United Nations Conference on Trade and Development, UNCTAD/WIR/2020, https://unctad.org/system/files/official-document/wir2020_en.pdf
[13] The World Bank Doing Business 2020 report, https://www.doingbusiness.org/en/data/exploreeconomies/tunisia#DB_sb
[14] World Investment Report 2020 International Production Beyond the Pandemic, United Nations publication issued by the United Nations Conference on Trade and Development, UNCTAD/WIR/2020, https://unctad.org/system/files/official-document/wir2020_en.pdf