تحليل: تونس تصنع ديمقراطيتها الخاصة: الديمقراطية الشعبية وإعادة بناء السلطة من القاعدة

هل يحدث التغيير المنتظر من خلال تحديث آليات الديمقراطية وتقليص نفوذ النخب وتوسيع مشاركة الشعب في اتخاذ القرار؟   أحداث مهمة

10 أغسطس، 2022


  • تونس تصنع ديمقراطيتها الخاصة وترفض الوصاية الأجنبية عليها
  • نجاح الاستثناء التونسي قد يلهم العرب رغبة التغيير مجددا
  • تونس النموذج الاستثناء والدعم الشعبي للتغيير المستمر: هل تلهم العرب مجددا؟
  • الإسلاميون المدعمون خارجياً يخوضون معركتهم الأخيرة ضد الرئيس المدعوم شعبياً
  • لماذا يصادر الغرب حق تونس والدول العربية في تقرير مصيرها؟
  • تونس وبداية مسار تعزيز كرامة الفرد وتحفيز انتمائه لوطنه
  • الدستور الجديد: لا حصانة للمسؤولين إذا فشلوا في تلبية تطلعات الشعب
  • منح مصادر الثروة للشعب بآليات جديدة 

 

الباحث: د. عماد بن الصادق مرزوقي

 

ملخص:

في ظل رغبتها وحرصها على سيادة خياراتها الوطنية، يبدو أن تونس قد تحافظ على الاستثناء العربي في تجارب التغيير السياسي منذ 2010. فمن خلال تمسكها بسيادة خياراتها ورفض التدخل الخارجي في شؤونها، تستمر ماضية في تطبيق مسار استثنائي وجديد لتحديث آلية عمل الديمقراطية ودعم استفادة الشعب منها.

وفي حين اتضح فشل الديمقراطيات العريقة الليبرالية في دعم مواطنيها بعد نشر أرقام صادمة عن تفاقم معدلات الفقر والبطالة في أوروبا والولايات المتحدة ما دفع بعض المفكرين الغرب ينتقدون الديمقراطية الليبرالية واحتكار النخب لفوائدها، ينكر الغرب اليوم أي مساع تونسية لخلق نموذج ديمقراطي شعبي جديد وناجح يقرر مصيره الشعب التونسي المتطلع لتجربة جديدة قد تكون ملهمة.

عبر تصحيح مسار الانتفاضة الشعبية في ديسمبر 2010 يهدف الرئيس قيس سعيد لوضع خارطة طريق جديدة تهدف لتقليص نفوذ النخب مقابل توسيع مشاركة الشعب في اتخاذ القرار والثروة. هذه الوعود التي لطالما تبناها رئيس الجمهورية الذي يتواصل مع شعبه دون قنوات وسيطة، يعي جيدا أن تحقيقها في أقرب الآجال هو تحد جسيم لا مفر منه من أجل تجسيد قدرته على الوفاء بوعده في تحقيق تغيير ملموس خاصة لدى الفئات الشعبية الهشة، الى جانب تحفيز جهود الدولة لتحسين ظروف حياتهم وبيئة عيشهم وترسيخ ثقافة شعبية جديدة تولي أهمية قصوى لاحترام مبادئ العدالة والمساواة والقانون من أجل تحقيق هدف أسمى يتبناه السواد الأعظم من المنتفضين على النظام السابق قبل عقد من الزمان ومستمر الى اليوم والمتمثل في تحقيق كرامة الفرد في وطنه. حيث مر عقد كامل على رفع هذا الشعار دون تحققه كما يزعم ذلك أغلب التونسيين في تعليقات البعض على منصات التواصل الاجتماعي.

بعد مرحلة الاستفتاء على دستور جديد بمثابة (العقد الاجتماعي الجديد) قد تتركز مساع الدولة في المرحلة المقبلة على تسخير كل جهودها ومؤسساتها على أولوية إعادة علاقة الثقة بين الدولة والمواطن، وأيضا قد ينصب الاهتمام على أولوية تحقيق إجراءات وتشريعات ومشاريع عاجلة تضمن نتائج اقتصادية واجتماعية فورية. هذه النتائج المرجوة قد تمثل ترجمة بداية تصحيح المسار الذي أعلنه الرئيس وانتصارا لمطالب الشعب الذي يؤيد جزء كبير منه اجراءات عدالة توزيع وخلق الثروة والمحاسبة ومحاربة الفساد وتمكين الجميع من الاندماج المجتمعي والمشاركة السياسية على أساس المساواة أمام القانون وحسب معايير الكفاءة والمهارة دون تمييز.

هذا الطموح قد يتحمّس له المهمشون في الجهات، خاصة مع تمكينهم من قدرة التغيير وإقرار مصير التنمية في الجهات والاقاليم. كما أن التونسيين على موعد مع اختبار ممارسة الديمقراطية الشعبية بحصولهم على حق دستوري في اقتراح مشاريع التنمية، فضلاً عن تمكينهم من ممارسة حق سحب التفويض الشعبي من ممثلي الشعب في المجالس الانتخابية ان عجزوا عن تحقيق تطلعات الناخبين. وهي تعديلات ثورية ان طبّقت حسب نصوص العقد الاجتماعي الجديد المتمثل في الدستور المستفتى عليه في 25 من يوليو الماضي، فقد يكون التونسيون قاموا بخطوة الى الأمام في خلق نموذج ديمقراطي وتنموي هادئ خاص بهم قد يحتذى به مستقبلاً.

كما يجدر التذكير وفق التجارب المقارنة في العالم المتقدم والنامي، أنه ان لم تخدم الديمقراطية تعزيز مقومات التنمية وتحسين عيش المواطنين، فيصبح اصلاح اختلالاتها واجب على الدولة، حيث ان فصل ممارسة الديمقراطية عن الواقع الاقتصادي والاجتماعي لا يمكن أن يؤدي الى استقرار وسلم داخلي. وهو ما قد يدفع لطرح حلول جديدة لتحسين الية العمل الديمقراطي، وهو مسار يكاد ينسجم مع التجربة التونسية.

عقد اجتماعي جديد

رغم الانتقادات وضبابية الرؤية يتشكل مسار ديمقراطي جديد من نوعه في تونس والعالم العربي يتوق لتغيير قواعد السلطة والحكم. ورغم عدم وضوح أفق التغيير، الا أن إرادة شعبية تعبر تدريجياً عن نفسها باتت واضحة المعالم تتطلع لعقد اجتماعي جديد بين الشعب والسلطة يحقق أهداف تنموية.

نتيجة فشل حكومات متعاقبة في تحقيق طموحات التغيير الشعبي طيلة العشر سنوات الماضية التي شكّلت مرحلة ما بعد ثورة 2010، يكاد يجمع أغلب التونسيين على فقدانهم الثقة في النخب السياسية التي شاركت في السلطة خلال العقد الماضي. واقع وفّر كل المبررات للقطع مع عشرية ما بعد الثورة ومنظومتها السياسية والاقتصادية.

رغبة التغيير وعدم العودة الى الوراء وخشية تكرار الفشل، دفع التونسيين الى منح فرصة لتجربة سياسية جديدة وفريدة من نوعها يجسّدها دستور جديد نال ثقة 95 في المئة من المشاركين في الاستفتاء عليه في 25 من يوليو الماضي والذين مثلوا نحو ثلث الناخبين النشطين.

ورغم نسبة العزوف المرتفعة، الا أن العازفين عن المشاركة في إقرار مصير جديد في البلاد لا يعكسون بالضرورة جبهة لمقاطعة الدستور كما تروّج لذلك المعارضة السياسية للرئيس التونسي قيس سعيد الذي أشرف على صياغة النسخة الجديدة للعقد الاجتماعي بدافع تحقيق أهداف الثورة والتي لم تتغير منذ 2011 بل أصبحت أكثر الحاحاً.

تعكس نسبة العازفين المرتفعة على الأرجح أغلبية صامتة محبطة، حيث يعبّر كثير من التونسيين عبر منصات التواصل الاجتماعي حسب رصد لموقع “فايسبوك” عن حالة احباط من عدم قدرتهم على التغيير عبر الاقتراع المباشر وعدم جدوى تأثير أصواتهم في مسار تحسين حياتهم. اذ ينتظر أغلب التونسيين وخاصة الشباب منهم إجراءات ثورية تقطع مع بيروقراطية الإدارة والفساد المستشري وتؤسس لدولة تعزز مشاركة الشباب في سوق العمل ومراكز اتخاذ القرار. وهذا ما يبدو أن الرئيس استوعبه جيدا، حيث خصّ بعض بنود الدستور من أجل دسترة حق الشباب، وخاصة أبناء الجهات المحرومة من التنمية، من أجل ممارسة حقهم في التغيير والمشاركة في الإنتاج والاستثمار بما يتلاءم مع خصوصيات كل جهة. وهذا ما يتناقض مع مركزية سلطة اقتراح مشاريع التنمية.

تردي الأوضاع المعيشية ومطالب شعبية ملحّة

نتيجة تردي الأوضاع الاقتصادية بسبب عدم استقرار سياسي طغى على مرحلة العشر سنوات الأخيرة، والذي عمقته لاحقاً وتيرة تصادم النخب والسلطات على الصلاحيات والنفوذ، وصولاً لبلوغ حالة جمود سياسي واقتصادي فقامته تداعيات جائحة كورونا والحرب الروسية الأوكرانية وارتفاع أسعار الطاقة، نتيجة كل هذه العوامل تضررت أغلب شرائح الفئات الاجتماعية في تونس، ولعلّ في ارتفاع نسب الفقر والبطالة والتهميش دلالات على تشكل مطالب ملحّة لتحسين الوضع المعيشي للسواد الأعظم من التونسيين بعيداً عن صراعات السياسة التي بات يراها البعض أنها ترف حكر على النخب.

اذ لم يستفد المواطن العادي من الصراعات والتحولات السياسية المزمنة وخاصة وعود الشخصيات السياسية. حيث يسود اعتقاد شعبي أن المسؤولين أو النخب السياسية والاقتصادية يعملون لتحقيق مصالح ضيقة بعيداً عن الصالح العام.

ولعلّ في ارتفاع نسبة مديونية الدولة العالية جداً في مقابل نمو طفيف للصادرات والاستثمار المحلي مؤشر على ضعف أداء الحكومات السابقة في تحقيق تنمية حقيقية. حيث تسببت القروض التي صرفت أغلبها في نفقات استهلاكية في ظل الحكومات المتعاقبة في تراكم تكلفتها الى حد أن بلغت عائقا للاستثمار الحكومي بسبب تركة الديون المكلفة الواجب سدادها بدون انتاجية او قيمة مضافة تذكر.

تؤكد المؤشرات الاقتصادية أن أغلب قروض تونس لم تنفق بشكل يصنع مصادر ثروة وموارد جديدة. اذ أن وتيرة الفرص الاستثمارية وخلق الوظائف تراجعت بنسبة كبيرة خلال العشر سنوات الماضية. ورغم تذبذب نسب البطالة والفقر الا أن أغلبها ظلت في ميل نحو الارتفاع مع مسار تصاعدي مقلق لنسب التضخم، ما دفع المواطن التونسي اليوم يفقد أكثر من 60 في المئة من قيمة قدرته الشرائية على أساس الدخل السنوي الذي لم ينمو بشكل يوازي التضخم السريع.

الا أن الوتيرة الاقتصادية خلال العشر سنوات الأخيرة اتخذت مسار التنمية غير التشغيلية بتركيز منح الحكومات المتعاقبة لتراخيص للمشاريع الخدمية وسريعة الربح أكثر من المشاريع التشغيلية الصناعية والفلاحية ذات القيمة المضافة العالية. كما أن التشجيع على الاقتراض الاستهلاكي دفع بالتونسيين الى ادمان الاقتراض مع انعدام ثقافة الادخار الوطني.

علاوة على ذلك، أكثر ما ميّز وتيرة الإنتاج خلال العشر سنوات الأخيرة ظهور معوقات كثيرة وضغوطات جمّة حالت دون ازدهار الاستثمار والتصدير، اذ عاش القطاع الخاص وضعية صعبة خصوصاً على مستوى التصدير والحصول على التمويل، ما خفّض من نسب المبادرات وخلق المشاريع الوطنية الجديدة، وهو ما تسبّب في اعاقة نمو الاستثمار الأجنبي في ظل ارتفاع نسب هجرة بعض الاستثمارات ورؤوس الأموال من تونس توّجت بإغلاق مئات المؤسسات أغلبها أجنبية سواء بدافع عجز مالي أو بسبب تقلص الجدوى السوقية والفرص، مع زيادة وتيرة المنافسة وتغلغل الاقتصاد الموازي وصعود التهريب فضلاً عن انفتاح تونس على واردات من منتجات مصدرها أسواق خارجية من بعض الدول وهي منافسة للمنتوجات المحلية وبقيمة مضافة متدنية ومحدودة خاصة في قطاع التجزئة والمنتجات الاستهلاكية الغذائية والكهربائية.

لكن المقلق في النظرة الاستشرافية للاقتصاد التونسي، أن انفتاح السوق التونسية أمام الواردات الأجنبية محدودة القيمة المضافة مع تنافسية محدودة أمام السلع المحلية كان بدوافع مختلفة أهمها الربح السريع. جزء من هذا الانفتاح كان أيضاً انتقائياً بدوافع سياسية في ظل تحالفات وشراكات تونس مع الأشقاء والأصدقاء. حيث هناك اعتقاد أن سياسة الدولة الاقتصادية في العقد الماضي كان جزء منها يعتمد على تحقيق نوع من الولاءات مع بعض الشركاء الاقتصاديين الإقليميين والدوليين على حساب آخرين. واقع يفسّره نمو نسب العجز التجاري بين تونس وبعض الدول في مدة وجيزة حيث نمت الواردات التونسية من بعض الدول في مقابل تراجع صادراتها.

اختلال التبادل التجاري وتذبذب الصادرات، فاقم ضبابية الاستقرار الاقتصادي خلال العقد الماضي، خاصة في ظل مزاعم بتدخل النخب السياسية في الشأن الاقتصادي. فرضية ان صحت، فقد تفسّر أسباب تعثر الإصلاحات واندفاع البعض الى المزايدات والوقوع في مطب الولاءات من أجل تحقيق مصالح ضيقة لبعض النخب النافذة.

في المجمل نتيجة بعض الأخطاء الاستراتيجية، تراجعت نسبة حمائية الاقتصاد التونسي خلال العقد الأخير ما أثّر سلباً على تراجع نسبة منافسة المنتج التونسي في السوق المحلي والدولي، فضلاً عن تعثر مسار مبادرات إطلاق المشاريع الوطنية. في مقابل ذلك، تفيد بعض التقديرات والمعلومات عن زيادة هجرة محتملة لرجال الاعمال التونسيين الى خارج البلاد بدوافع مختلفة. وهو ما يعتبر هدر في احتياطات الاستثمار الوطني والرأسمال البشري.

حصيلة محدودة لمحاربة الفساد بسبب تدخل النخب خلال العقد الماضي

رغم الأرقام المعلنة عن تحسّن بيئة التشريع والأعمال، الا أن هناك مغالطة في حقيقة الأمر، حيث ما يجري على الأرض قد ينافي الأرقام المعلنة. فقد مثلت شعارات مواجهة الفساد طيلة العقد الماضي مغالطة لم لها انعكاسات حقيقية على الأرض، ولم تنعكس ايجاباً على أحوال التونسيين، اذ أن تدخل السياسة في الاقتصاد لم يساعد على خفض حقيقي لمدركات الفساد.

ولعل النظر اليوم في حجم القضايا والملاحقات والتحقيقات العدلية الجارية في مزاعم فساد التي تلاحق العشرات في مختلف الإدارات العليا والمتوسطة في القطاعين العام والخاص يعكس مؤشرات مقلقة حول حالة جمود عملية الإصلاح والتطوير والحد من تغلغل البيروقراطية والمحسوبية ومدى المغالطة حول تراجع مدركات الفساد خلال العقد الماضي، حيث تشير الترجيحات الى أن الفساد كان مستترا ومتخفياً.

يتطلع السواد الأعظم من الشعب التونسي كما تؤكد ذلك بعض احصائيات منشورات التونسيين على “فايسبوك” لتغيير اقتصادي واجتماعي أكثر منه سياسي. لكن هناك توافق على فقدان الثقة في النخب بعد أن فشلت في تحسين أوضاع البلاد والشعب طيلة عقد كامل بعد الثورة سواء تحت قبة البرلمان أو من خلال السلطة التنفيذية.

ولعل ما يدعم توجه الكثير من التونسيين نحو تأييد مرحلة تغيير مستحقة بالقطع مع النخب التي شاركت في قيادة مرحلة العشرية الأخيرة بعد ثورة 2010 هو استمرار انكار هذه النخب لتحمّلها المسؤولية الرئيسية في تردي الأوضاع طيلة العقد الماضي. بل تستمر في تحميل جهات أخرى المسؤولية وتعيد انتاج المبررات نفسها التي لم تعد محفزة لمشروعيتها وجماهيريتها المعتادة. وهو ما ينتج خيبة أمل لدى شريحة واسعة من التونسيين ازاء تهرب النخب من تحمل المسؤولية. فقد ساعد تشتت توزيع السلطات التي فاقمتها قيود دستور 2014 في التهرب من المسؤولية الشعبية.

المعارضة وانكار مرحلة مطالب التغيير

بعد التغيير الذي فرضته الاجراءات الاستثنائية التي أقدم عليها الرئيس في 25 من يوليو الماضي من أجل انقاذ الدولة من الانهيار كما يبرر ذلك، تستمر النخب السياسية التي شاركت في السلطة خلال العقد الماضي والتي تحوّلت الى معارضة في رفض مصير اقصائها بموجب فشلها شعبياً أولاً، وبموجب التدابير الاستثنائية التي علّقت عمل البرلمان والحكومة السابقة وأغلب المؤسسات التي انبثقت عن دستور 2014.

هذه النخب ترفض التغيير وتطالب بالعودة للسلطة وإعادة انتاج الفشل بنفس المبررات والاليات، وهو ما يرفضه الرئيس مطلقاً. وبذلك فان أكبر خطأ تقترفه المعارضة أنها تعيد انتاج صورة الفشل بنفس مبرراته التي لم تعد صالحة اليوم، ولم يعد يصدقها كثير من الناخبين. وأكبر صدمة لها أنها لم تعد تنجح في حشد الأنصار بالآلاف مثل السنوات الماضية. وهو ما يدلّ على فقدان رصيد شعبيتها ومشروعيتها. كما لم تسعى لتجديد نفسها بل تصرّ على إحياء دورها بنفس الرموز السياسية التي يتحفظ جزء كبير من التونسيين على أدائها. اذ أن جزء كبيرا من التونسيين يريدون تغييرا جذرياً في المنظومة والنخب برمتها.

رغم فشل تجديد مشروعيتها، فان استمرار إصرار عناصر المعارضة المكونة أساساً من الأحزاب التي أقصيت من البرلمان المنحل، على الاستراتيجية نفسها، قد يذهب دون نتائج قريبة ملموسة، الا إذا تم تجديد الرموز والشعارات والخطاب السياسي ككل. وهو ما يرفضه زعماء المعارضة، حيث يعتبرون أنفسهم رموزا ملهمة. وهو ما ينافي الواقع.

حيث رغم تعدد مناسبات التظاهر التي دعت اليها الحركات المعارضة للرئيس والطامحة لعودة دستور 2014 والمنظومة السابقة، لم تفلح هذه الدعوات في شحن أغلب التونسيين ضد الرئيس. كما فشلت الشعارات المرفوعة في اقناع جزء كبير من التونسيين بجدوى إعادة منح هذه النخب فرصة أخرى. لذلك فان جهود كثيرين منهم يبدو أن نتائجها تذهب عكس ما تشتهيه المعارضة، اذ تفيد تقديرات استطلاعات الرأي تقلّص نسبة الدعم الشعبي المباشر لبعض جبهات ورموز وتيارات المعارضة. وقد تبرر الأعداد القليلة المحتجة في مناسبات التظاهر التي تقودها المعارضة في الشوارع ذلك، حيث يعد مؤشرا واضحاً على خسارة العديد من النخب الحزبية والسياسية لمشروعيتها في الشارع الانتخابي. ما يفرض على الطبقة السياسية برمتها مراجعة خياراتها ونقدا ذاتياً قاسياً وإعادة انتاج خطاب وبرنامج سياسي يتوافق مع تطلعات الشعب.

ورغم إصرار نخب المعارضة الإسلامية والليبرالية والشيوعية والقومية والمتكتلة بعضها في ائتلاف يدعى بجبهة الخلاص على معارضة إجراءات الرئيس المتخذة في 25 من يوليو الماضي، الا أن بعض عناصر هذه المعارضة بدأت تقتنع بالمتغيرات الجديدة، وتبحث عن تموقع جديد للتأقلم مع المرحلة المقبلة حتى وان كان من موقع المعارضة المستقبلية.

ولعل الإسلاميون أكثر المعارضين الباحثين عن إعادة انتاج أنفسهم لكن بالشعارات نفسها وتغير المواقف والتحالفات، وهو نهج أظهر عدم واقعيته وفشله في زيادة التعبئة الشعبية على غرار حركة النهضة التي رغم وجود قواعد شعبية تؤمن بها، الا أنها في تراجع مستمر.

وتبحث بعض القواعد الانتخابية وأنصار بعض الأحزاب من المحبطين عن بدائل أخرى قد تستوعب تطلعاتها، حيث من المرجح رصد ظاهرة هجرة لقواعد انتخابية لعدد من الأحزاب نحو أحزاب أخرى. رغم أن جزء كبيرا من الأنصار والمتعاطفين مع عدد من الأحزاب قد يخير الانضمام لشريحة الأغلبية الصامتة والمراقبة.

كما أن نسبة أخرى من المتعاطفين قد تتخلى عن التأييد الدائم وغير الواعي لخيارات بعض الأحزاب التي فشلت في تحقيق وعود ناخبيها. وهنا تكمن مشكلة حركة النهضة وادارتها للمرحلة الحالية، حيث أن قيادة الحركة تصر على انكار جزء كبير من حقيقة خسارتها لحجم كبير من التعاطف الشعبي، وبدل اصلاح البوصلة على مستوى تغيير إدارة المرحلة وقيادتها، يستميت رئيسها راشد الغنوشي في البقاء كرأس حربة في صراع تجديد مشروعية الحركة وخطابها مع استثناء زعيمها. ورغم دعوات من زملائه بالانسحاب من قيادة أكبر حزب في البلاد وتجديد جذري للحركة، الا أنه يصر على البقاء رغم الأخطاء التي اعترف بوجودها مستمرا في ممانعة تسليم المشعل لقيادة أخرى. وبذلك يستمر في عيش مرحلة نكران فقدان المشروعية والتعاطف.

المعارضة التي تصرّ حتى بعد نجاح الاستفتاء على الدستور الجديد ألا تعترف بكل التدابير التي أتت بعد 25 يوليو 2021، تختلف حول مبدأ رفض الدستور الجديد برمته أو انتقاد نقائص فصوله. حيث حاولت قبيل الاستفتاء، شحن التونسيين بهدف دفعهم لرفض الدستور أو مقاطعة الاستفتاء، لكن نسب التأييد الشعبي لهذه الدعوات غير واضحة، الا أن مؤشر تراجع المشاركة الشعبية في احتجاجات المعارضة ما بعد الاستفتاء دليل على استمرار ضعف قدرة الحركات السياسية على الهام التونسيين.

اتسمت ديبلوماسية تونس خلال العشر سنوات الأخيرة بالحياد السلبي خاصة على مستوى محدودية الاستفادة من التغيرات الجيوسياسية اقليمياً ودولياً وهدر الفرص المتاحة، حيث لم تتمكن البلاد من عقد شراكات مربحة، وإنجاز مصالح كبرى مع الشركاء العرب والدوليين. كما عجزت عن توظيف العلاقات الديبلوماسية الجيدة في خلق فرص استثمارية ضخمة والترويج الجيد للنموذج التونسي الإيجابي كاستثناء ديمقراطي عربي. حيث أن الدول التي تقاربت مع تونس استفادت تجاريا من علاقتها مع الحكومة التونسية أكثر من استفادة الدولة التونسية نفسها، وهو ما يمثل خيبة أمل في دور الديبلوماسية الاقتصادية خلال العقد الماضي، ما يحتم مراجعتها.

تصحيح المسار

سعى رئيس الجمهورية في محاربة بيئة الفساد، وطمأنة الرأي العام الداخلي والخارجي بقدرة الدولة على ضمان الاستقرار والتزامها بنفاذ القانون والتخلص من مظاهر الفساد الذي استفاد من تفكك الدولة حسب الولاءات طيلة العشر سنوات الأخيرة. كما كرر الرئيس مرارا رسائله لأهمية استرجاع دور الدولة في خدمة المواطن والصالح العام بعيدا عن خدمة المصالح الشخصية والحزبية الضيقة.

مسار تحسين أداء الدولة وزرع الأمل في التغيير الإيجابي بعقد اجتماعي جديد يجعل للمواطن دورا فاعلاً في المجتمع مكتسباً لكرامة كاملة وانتماء خالص للوطن دون الولاءات الحزبية، اعتبر رهاناً وجب تحققه وفق رؤية الرئيس الطامح بإعادة ثقة التونسي في دولته.

لكن مسار الثقة ما يزال في بداية الطريق، حيث يسود شعور قلق عبر عنه تونسيون على منصات التواصل الاجتماعي، ازاء المستقبل القريب. لكن شعور القلق لا ينفي تفاؤل البعض إزاء نوايا الرئيس من جهة، وبالنظر لرغبة معلنة من تونسيين في الداخل وخاصة في الخارج للوقوف مع مسيرة إعادة بناء الدولة التونسية، من جهة أخرى. فقط ما هو مطلوب حسب تعبيرات نسبة كبيرة من العينة المستطلع آرائهم حسب تعليقاتهم عبر “فايسبوك” ان تنهض تونس بدولة القانون والمساواة والديمفراطية المنتجة للعدالة والرفاه والضامنة للحريات والحقوق. كلها مطالب أكد على دستوريتها العقد الاجتماعي الجديد. فبقدر حرص الرئيس على إعادة هيبة الدولة وممارساتها العادلة الهادفة لرفاه المواطن، بقدر ما أظهر حرضاً أيضاً من خلال دراسة خطاباته على إعادة كرامة المواطن التونسي ونبذ عودة شبح الاستبداد.

زيادة فقدان الثقة الشعبية في النخب السياسية بسبب ضعف الأداء والفساد

تورط جزء من النخب في الفساد بسبب التربح من المناصب وتضارب المصالح، رسّخ لدى جزء من الجمهور التونسي نوعاً من نزعة عدم الثقة في وعود النخب بصفة عامة. وبات التركيز الأول للصلة المنشودة بين الشعب والحاكم يتمثل في الاهتمام بترسيخ علاقة الثقة، فبقدر ما قيام السياسيين بإثبات صدق وعودهم الانتخابية على الأرض، بقدر عودة الثقة. حيث تسيطر نظرية المؤامرة على أراء العديد من التونسيين المستخدمين لمواقع التواصل الاجتماعي. إذ يغلب على اعتقاد كثير من التونسيين أن النخب الحاكمة لا تهدف لخدمة الشعب.

بعد أن تعطّل مسار ممارسة الديمقراطية التمثيلية الإيجابية الذي أمل كثيرون من التونسيين أن تنتج لهم طيلة العقد الماضي موارد ثروة جديدة ومعايير العدالة والمساواة، تراكمت في المقابل وعلى امتداد السنوات الماضية مشاعر احباط شعبي من تأخر إنتاج الآلة الديمقراطية للكرامة والعمل والتغيير الاقتصادي والاجتماعي الإيجابي الموعود. حيث ذهبت هذه الوعود التي أطلقتها النخب السياسية أدراج الرياح في ظل هدر سنوات طويلة في صراعات بدون فائدة بين النخب على السلطة وليس على انتاج الثروة وإعادة تنويعها وتوزيعها بشكل عادل يلبي تطلعات أغلب المشاركين في ثورة 2010، والذين طالبوا حينذاك بالعدالة والكرامة والعمل.

هذه الشعارات عجز المسار الديمقراطي المتعثر في تونس طيلة أكثر من عقد على تلبيتها. لم تنتبه النخب الى فقدان الشعب لصبره على تأخر تحقق مطالبه. وهو ما قاد الى تفاقم أزمة الثقة وردة فعل غاضبة. ردة الفعل الشعبية الغاضبة دفعت اليها أزمات كبرى مثل تداعيات جائحة فيروس كورونا واحتدام الصراع بين مكونات سياسية بعضها انتهازية وغير متجانسة بقيود الدستور 2014 وغير متوافقة تحت قبة البرلمان على آلية انقاذ البلاد فضلا عن هيمنة الخلافات الشخصية والايدولوجية على أجندة الإنقاذ المرجوة بعد تعرض البلاد الى أكبر أزمة صحية في تاريخها أدت الى وفاة متوسط أكثر من 100 تونسي يوميا على امتداد أشهر جراء الفشل الحكومي في مواجهة الجائحة.

كما فاقم التصادم بين رؤساء السلطات الرئيسية الثلاث بين 2019 الى 24 يوليو 2021 على الصلاحيات من ضبابية رؤية الانقاذ، الى حين اندفاع مئات التونسيين في يوم 25 من يوليو الماضي للتعبير عن الغضب والاستياء والإحباط مع عدم تلبية مطالب فورية بالتغيير. مطالب تبناها الرئيس قيس سعيد الذي قدم الى السلطة بشعار تحقيق ما يريده الشعب ” الشعب يريد”.

أولويات الرئيس قيس سعيد

منذ 25 من يوليو الماضي بدأ تاريخ جديد في تونس يقطع مع عقد كامل من التحولات السياسية والديمقراطية التي تمخضت عن انتفاضة شعبية ضد النظام الرئيس الأسبق الراحل زين العادين بن علي في ديسمبر 2010.

لكن رغم تغير جزء كبير من محتوى شعارات الغاضبين من الشعب بين احتجاجات 2010 ومسيرات 2021، بقي شعار واحد مستمر بإلحاح منذ الإطاحة بالرئيس التونسي الأسبق زين العابدين بن علي لم يتغير، والمتمثل في رفض شعبي واسع آنذاك ومستمر الى اليوم في احتكار النخب للنفوذ والسلطة والثروة، حتى تبلور يقين بين شرائح كبيرة من الشعب أن هذا الشعار هو وقود الثورة المستمرة الى حين امتلاك قدرة فك هذا الاحتكار وممارسة الشعب للنفوذ والسلطة وامتلاك الثروة عبر اليات جديدة أقرها الدستور الجديد.

كانت هذه المحاور الرئيسية لخطوات الرئيس الطموحة للتغيير سواء عبر الأوامر الرئاسية أو عبر نسخة الدستور الجديد والتي وضع فيها تعديلات تتيح إعادة ممارسة الشعب للسلطة وامتلاكه لثرواته.

كانت أولى أوليات الرئيس الطامح لطي صفحة فشل العقد الماضي هي محاربة الفساد بإقرار المساواة أمام القانون والمحاسبة والعمل على إعادة الثروات الشعب المنهوبة وافتكاك الدولة من سيطرة النخب الى خدمة الشعب والصالح العام.

الخطوة الثانية تمثلت في إعادة توازن السلطة وعدم تفتيتها واشراف الرئيس المنتخب على تسخيرها لخدمة الشعب والايفاء بوعوده الانتخابية، وذلك ما يسّهل المحاسبة، حيث يكون الرئيس المنتخب المسؤول عن نحاج أو فشل وعوده الانتخابية، كما أنه المسائل شعبياً أيضاً عن تنفيذ برامج الإصلاح والتغيير، ويتم ذلك باسترجاع بعض الصلاحيات للرئيس الحريص على وحدة الشعب ومكوناته والمحافظ على كيان الدولة وعمل المؤسسات الديمقراطية وتطبيق المساواة والعدالة والحقوق والحريات.

ثالثا: الأمر الإصلاحي الثالث والذي قد يحدث ثورة في ممارسة الديمقراطية الحديثة المتمثل في العودة لاستشارة القاعدة الشعبية وتشريكها في اتخاذ القرارات المصيرية، وأيضاً في منح الشعب ممارسة حق سحب الوكالة أو سحب التفويض الشعبي من ممثليه في المجالس المنتخبة إذا تعذر على ممثل الشعب القيام بمهامه او تحقيق تطلعات الناخبين.

التغيير في السياسات والصلاحيات والمؤسسات قد يؤسس لنهج جديد في الحكم وتوزع السلطات، ما قد يمكن من سرعة الإنجاز والتغيير، لكن مع مخاوف أثارتها النخب المعارضة تتمثل في محدودية تنصيص الدستور الجديد على مواد تتعرض لكيفية مسائلة الرئيس ومراقبة أفعاله وترشيد صلاحياته. الا أن مناصرة لمشروع التغيير الذي يقوده الرئيس وهي ناشطة سياسية مستقلة ونائبة رئيس بلدية منطقة بومهل بإحدى ضواحي العاصمة التونسية تقرّ بوجود ضمانات لمحاسبة الرئيس في ظلّ التنصيص على تأسيس المحكمة الدستورية.

رغبة الرئيس في التغيير بدت واضحة في بعض فصول الدستور، لكن رغم التنصيص على بعض التغييرات الجوهرية التي تتجاوز العراقيل والمطبات التي تضمنها دستور 2014، تبقى إمكانية التعديل واردة لزيادة مأسسة النهج الديمقراطي ومراقبة أداء الرئيس ومحاسبته وإمكانية إعادة ضبط آلية توزع السلطات في ظل نظام رئاسي قبله السواد الأعظم من المستفتين بهدف منع مصير تشتت السلطة بين مؤسسات عديدة دون تحقيق أي تغيير يذكر، وهو ما مثّل أول مبررات استياء جزء كبير من الشعب ازاء فكرة العودة للمنظومة السياسية الحاكمة السابقة ما بعد ثورة 2010 والمعتمدة للنظام البرلماني المزدوج. هذا النظام خلق عراقيل كثيرة لمسار ممارسة الديمقراطية والسلطة، حيث أوجد تصادمات كثيرة بين البرلمان والرئاسة والحكومة وبقية السلطات والنقابات والجمعيات.

 

 ويمثل احتمال العودة لهيمنة الأحزاب هاجساً كبيرا بين شرائح واسعة من المواطنين الطامحين لتغيير يقوده زعيم بمواصفات خاصة أبرزها النزاهة والإخلاص والاستقلالية من الولاءات الحزبية والمصالح النخبوية والتي تتوافر حسب رأي البعض في الرئيس قيس سعيد، حيث باتت مثل هذه الصفات ترسخ في وعي التونسيين المعايير المستقبلية لاختيار رئيس المستقبل.

لكن رغم النوايا الطيبة التي قد يزعمها الرئيس من خلال الدستور والتفويض الشعبي من أجل تغيير البلاد الى الأحسن، الا أن مخاوف تشريع هيمنة السلطات بيد سلطة واحدة في المستقبل، مسار يقلق النخب المثقفة خشية أنه قد يؤسس لقاعدة العودة للدكتاتورية التي نفى سعيد مطلقاً الترسيخ أو التأسيس لها أو التشجيع عليها. وفي مقابل ذلك أكد على توازن جديد للسلطة تكون العودة للقاعدة الشعبية الضامن لعدم الاستبداد بها، مع الرهان على تعزيز المشاركة الشعبية في منظومة القرارات الوطنية والتي تهم الجهات كمنح صلاحيات أكبر لمجالس الجهات والأقاليم للمشاركة في التشريع والرقابة ومنح وطرح الثقة ومسائلة الحكومة.

الرئيس بإعلانه حسن النوايا يريد منح نفس تغييري جديد لجزء من المحبطين، مستغلاً فراغ الساحة السياسية من أي منافس قوي لا في إطار حزبي أو مستقل. حيث أن أغلب الشخصيات أو الأحزاب التي تروّج لحلول أو تنتقد مشاريع الرئيس تصنّف من ضمن الطبقة السياسية والحزبية التي عملت في فترة العشر سنوات الأخيرة والمتهمة بالمشاركة في الفشل وعدم الانتصار للمواطن فضلا عن عدم تأييد حراك الشعب في 25 يوليو الماضي، الذي مثّل نقطة فاصلة توازي في رمزيتها الثورة التونسية في 2010.

لقد عاش التونسيون تحولات في الفكر الجمعي والوعي السياسي خلال العقد الماضي، فمن كارهي الحزب الواحد في 2011، الى وجود طبقة شعبية جديدة تتمثل في كارهي الطبقة الحزبية المفتتة، والحالمين الى استقرار يقوده زعيم وطني نزيه وعادل. لكن ما يثير القلق: هل يكون الدستور الجديد ضامناً حقيقاً لاختيار رئيس عادل مستقبلاً على غرار سعيد كما يصفه مناصروه.

 

استنتاج وتوصيات: يهدف مسار تصحيح الحراك الثوري في تونس للحد من هيمنة النخب على مصادر الثروة ومراكز النفوذ وآلية الانتاج وإعادة تفعيل العدالة ومنح الفرد لحقوق تمكّنه من وسائل تجعله يشعر بفاعلية دوره في المجتمع وقدرته على الوصول الى مصادر الثروة، وهو ما قد يحفز تعزيز انتماء الفرد للوطن. هذا المسار لا يعيد انتاج الفكر الاشتراكي التقليدي بل يعيد للدولة دورها في تحسين عمل نظرية الديمقراطية الليبرالية التي خدمت عبر التاريخ وفق تجارب عالمية بما في ذلك الولايات المتحدة النخب ولم تخدم الشعب حسب تصريحات للمفكر السياسي الأمريكي نعوم تشومسكي.

مسار التغيير في تونس لا يهدف للانقلاب على الديمقراطية والحقوق والحريات بقدر ما يهدف للاستفادة العادلة من الانتقال الديمقراطي وضبط موازين منظومة تقاسم الثروة والمصالح بين القطاع العام والخاص وبين النخب والقاعدة الشعبية، والحرص على منع احتكار الثروة أو حق المشاركة في تقرير مصير البلاد.

فالهدف الأسمى بالنسبة للرئيس هو تحقيق نوع من العدالة التي تحفّز المساواة في الحقوق والواجبات والثروة، لكن يبقى التميز بين الأفراد والمجموعات والمؤسسات حق مضمون وفق الكفاءة والعمل، وهو ما يضمنه القانون.

على صعيد آخر، أزمة تونس الحارقة اليوم لا تتثمل حلولها العاجلة في أولوية حدوث معجزة الحلول الاقتصادية فقط أو استمرار تفعيل الديمقراطية التمثيلية، بقدر ما تتمثل في دور الدولة في ارجاع قيمة المواطنة وإعادة كرامة الفرد واستعادة شعوره بالانتماء للوطن. حيث يعيش جزء كبير من التونسيين خاصة المراهقين في المناطق محدودة التنمية أزمة انتماء وهوية متصاعدة ومقلقة. فلا يجد كثيرون من يستوعبهم. وهو ما قد يتحتم على الدولة مستقبلاً علاج ذلك بشكل عاجل عبر سياسات التحفيز والاستيعاب عبر سياسات إيجابية وليس عبر الحلول الأمنية، فضلا عن منع كل مظاهر التهميش. فبدون ترسيخ شعور الانتماء بين المواطنين، قد يصبح أي تغيير بلا معنى. حيث لا يمكن أن يلتزم التونسيون في مسار البناء المستقبلي دون شعور الفخر بالانتماء للوطن ولمشروع التغيير على أساس المشاركة والاستفادة بتطبيقات مبادئ العدالة والكرامة وذلك عبر الحد من البيروقراطية وممارسة السلطة للعنف الشرعي والسماح في المقابل بالحريات والحقوق المسؤولة دون أي قيود.

 

د. عماد بن الصادق مرزوقي، باحث تونسي في العلوم السياسية والعلاقات الدولية 

imedo_marzouki@yahoo.fr