تحليل: انفتاح الخليج على الصين: خيارات الموائمة والموازنة

السعودية ترسم نقطة مضيئة في العلاقات الدولية بعد نجاح القمة الصينية العربية أحداث مهمة

22 ديسمبر، 2022


  • محور عربي صاعد على أنقاض صراع المحاور والأزمة الروسية الأوكرانية
  • الاقتصاد يقود القاطرة السياسية الخليجية والعربية

 

بقلم د. فهد الشليمي

رئيس مركز الشرق الأوسط للاستشارات السياسية والاستراتيجية

sholaimi@yahoo.com

 

لم تسقط الدول العربية وفي مقدمتها بلدان مجلس التعاون الخليجي التي تقود قاطرة التنمية في العالم العربي في فخ الاصطفاف مع المحاور المتنازعة في العالم والتي برزت للعلن على خلفية تداعيات وباء فيروس وكورونا والحرب الروسية الأوكرانية المستمرة.

وعلى ضوء زيارة الرئيس الصيني شي جي بينج الأخيرة الى السعودية هذا الشهر وعقد قمة عربية صينية في الرياض جمعت أغلب زعماء العرب، برزت رؤية جديدة تعكس ارادة سياسية عربية متوافقة لتطوير استراتيجية العلاقات العربية الخارجية في المستقبل، وتعد بالتالي بدور أكبر للعالم العربي وخاصة دول مجلس التعاون الخليجي بقيادة السعودية في الساحة الدولية، وبوصلتها مصلحة الشعوب أولاً.

يسود اعتقاد بأن الصينيين يسعون للوقوف على حياد مع أغلب القضايا والتعقيدات التي يفرضها صراع المصالح والنفوذ بين أميركا وأوروبا وروسيا، حيث لا يريدون علناً التدخل في سوق الطاقة على سبيل المثال رغم أنهم من كبار المستهلكين لها، في حين يسعى الأوربيون لتغيير معادلة سوق الطاقة الدولية وفرض شروط على الامدادات الدولية وذلك لضمان مصالحهم على حساب الروس دون الاكتراث لمصالح الدول المنتجة. لكن الصين كأكبر مشتر عالمي للطاقة لم تستجب للضغوطات الأوروبية أو الأمريكية وحافظت لحد ما على موقف الحياد ودعم استقرار سوق الطاقة، وهو مبدأ تتفق فيه مع الدول الخليجية والعربية.

لا يمكن انكار حقيقة أن الغرب يسعى لفرض ضريبة على دعمه التاريخي لدول الخليج، ويطلب تنازلات لصالح زيادة تدفق النفط الخليجي نحو السوق الدولية. لكن بلدان مجلس التعاون اختارت عدم الرضوخ لأية إملاءات أو خيارات لا تتوافق مع مصالحها، حيث باتت تتبع رؤى تنموية وطنية تعكس استقلالية قراراتها السيادية وحرية تقرير المصير. وبات الاقتصاد يقود القاطرة السياسية الخليجية والعربية.

من خلال التقارب مع الصين، خيارات جديدة مطروحة أمام الدول العربية والخليجية من أجل كسب فرص ومصالح هامة تعود بالنفع على الشعوب وتعزز صعود العرب كقوة اعتدال ومحور محايد يهدف لدعم الاستقرار الإقليمي والدولي في ظل ظرفية غير مسبوقة من الصراعات على النفوذ بين محاور دولية متناقضة تقودها القوى العظمى المتنازعة. حيث نجحت دول الخليج خاصة في تجنب الاصطفاف لأي محور، بل على العكس من ذلك، سعت لبناء علاقات ندية والانفتاح على محاور محايدة مثل الصين وفق أولوية المصالح الوطنية وخلق مصادر ثروة متجددة للشعوب.

بعد انعقاد القمة الصينية العربية، نجحت السعودية خاصة في ترسيخ دورها كقوة اعتدال جامعة ومنفتحة على التعاون على قدم المساواة مع أغلب الفاعلين الدوليين رغم الضغوط الغربية خاصة الأمريكية والأوروبية الرامية للتأثير على القرارات السيادية للدول العربية. حيث أثبتت مواقف دول الخليج خاصة (السعودية والامارات) في رفض الوصاية الغربية على خياراتها وقراراتها.

وخلال تصريحات تلفزيونية لقناة “دويتشه فيله” الألمانية، أكدنا أن دول الخليج منذ حرب الخليج الثانية في عام 1990، تغيرت قدراتها وتغيرت كذلك خياراتها. حيث لم تعد الخيارات منحصرة في التعاون المهم والعميق مع الشريك الأمريكي والأوروبي. فعلى المستوى الدفاعي على سبيل المثال، باتت دول الخليج تمتلك ترسانة أسلحة متنوعة المصادر من الولايات المتحدة وأوروبا وكذلك روسيا والصين وشركاء آسيويين آخرين.

صحيح أن العلاقة التفاضلية والاستراتيجية الأمنية والاقتصادية جمعت دول الخليج بالولايات المتحدة والغرب، لكن في ظل السنوات الأخيرة لم تستطع المظللة الدفاعية الأمريكية في الخليج على سبيل المثال اثبات قدراتها في حماية دول المنطقة من التهديدات المتصاعدة والمتأتية من مصادر تهديد مختلفة أبرزها الجماعات الارهابية في مقدمتها جماعة الحوثي، فضلا عن زيادة تعرض منشآت حيوية خليجية خاصة النفطية لأكثر من مرة لتهديدات وهجمات مختلفة أصفرت عن أضرار متباينة، وهو ما فرض على دول الخليج إعادة النظر في تعزيز قدراتها العسكرية بتوسيع خيارات تحالفاتها وتنويع ترسانتها الدفاعية.

على صعيد آخر، بعض الأحداث التي جرت في الخليج في الفترة الأخيرة دلّت على وجود نقاط ضعف في القدرات الأمريكية العسكرية التي لم تنجح في تأمين حتى مصالحها ومعداتها ومنشآتها التي تعرضت لأكثر من مرة لتهديدات من القوات الإيرانية في المياه الخليجية على سبيل المثال. بعض المنشآت الأمريكية الحسّاسة استهدفتها القوات الإيرانية أو الجماعات الارهابية في العراق وسوريا، وهو ما يثبت محدودية فعّالية المظلة الدفاعية الأمريكية التي ظلّت طيلة عقود المهيمنة في علاقات حكومات الخليج بمجال الأمن. في الأثناء، هناك توجه خليجي لتوفير اكتفاء ذاتي في مجال الدفاع عن مصالحه سواء ببناء قدرات محلية أو من خلال تعزيز الشراكات مع مختلف الحلفاء وفق مبدأ أولوية المصالح.

موائمة وموازنة

لم تكن لدول الخليج خيارات منذ نحو ربع قرن في الانفتاح على التعاون المتقدم والشامل مع شركاء مثل الصين. لم تكن الثقافة الصينية حاضرة بقوة في منطقة الخليج في ظل هيمنة الثقافة الغربية خاصة الأمريكية.

التعامل مع الصين كان موجودا في الحقيقة لكن غير متقدم أو عميق مثل التعاون التاريخي بين دول الخليج والولايات المتحدة. فدول الخليج تربطها علاقات تعاون سياسي وعسكري مع الغرب المتمثل في الولايات المتحدة وحلفائها ككندا ودول الاتحاد الأوروبي.

من خلال انفتاح الخليج والشرق الأوسط على شراكات مع حلفاء مثل الصين، نحن نريد منطقة هادئة وعلاقات متوازنة مع الصين وروسيا وبقية القوى العظمى ونسعى لعلاقات جيدة ومستقرة مع إيران. العلاقة مع الصين لا تهدف فقط لجني أرباح مالية، لكن هناك مكسب آخر يتمثل في كون الصين عضو فاعل ومؤثر في مجلس الأمن. حيث تبرز أهمية حصول الخليجيين على الدعم الصيني في مجلس الأمن. فالوضع الحالي في المجلس تهيمن عليه رؤية رمادية في ظل صراع القوى العظمى. في الأثناء، يمكن أن نحصل على دعم مجلس الأمن في القضايا العربية والخليجية من خلال كسب الشريك الصيني صاحب الدور الفاعل في هذا المجلس. ولعل تجربة الأزمة الروسية لدليل واضح على توازن دور الصين والحفاظ على الحياد وعدم حلفائها.

وبذلك فان الدول العربية لم تقع في الفخ بتقاربها من الصين، حيث تتجه أكثر نحو بناء علاقات متوازنة مع القوى العظمى على أساس المصالح المتبادلة. أكبر مثال على ذلك، وجود اتفاقيات شراكة وتعاون بين دول الخليج مع الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا وألمانيا وكندا، وكذلك الصين وفي بعض الأحيان مع روسيا.

هذا الاتجاه ليس عشوائيا أو وليد اللحظة، ولكن يعكس استراتيجيات ورؤية خليجية وعربية مستشرفة للمستقبل وتسعى للاستفادة من علاقات متوازنة مع القوى العظمى في ظل متغيرات جيو-استراتيجية سريعة بدأت ملامحها تظهر منذ جائحة فيروس كورونا والحرب الروسية الأوكرانية.

دول الخليج والصين نجحت فيما ما فشلت فيه الدول الأوروبية

خلال لقاء تلفزيوني مع قناة الحدث العربية، برهنت جدوى مسار الانفتاح الخليجي على التعاون المعمق مع الصين. فالذي ينظر في خارطة النزاعات في العالم، يرى انقساماً في المحاور الدولية: هناك محور أمريكي أوروبي أوكراني، وفي الجهة الأخرى هناك محور روسي بيلاروسي إيراني. في المقابل هناك محاور أخرى محايدة لحد ما أبرزها المحور الصيني والمحور العربي. الصين والعرب وخاصة الخليجيين مستفيدين من صراع المحاور الذي فاقمته الأزمة الأوكرانية الروسية. لا يريد الصينيون أو الخليجيون اقحام أنفسهم في صراع المحاور المحتدم بين أميركا وأوروبا من جهة وروسيا وحلفائها من جهة أخرى. نتيجة هذا الصراع تبلورت رؤية عربية ترغب في الوقوف في الحياد وهو مسار مثل عامل توافق مع الصين، توجه يخدم سياسات ومصالح العرب. هذا التوجه رعته السعودية بامتياز وتوافق عليه أغلب سياسات الدول العربية الهادفة لنهضة اقتصادية قائمة على توسيع دائرة الشركاء وفق ما تقتضيه المصالح ونهضة الاقتصاد.

الدول العربية والصين نجحت فيما ما فشلت فيه الدول الأوروبية، حيث شهدنا أن سياسات الأوروبيين بتناقضاتها واصطفافها في المحاور أثرت سلباً على اقتصاداتها. وهو ما لم ترغب به دول الخليج والصين بشكل خاص.

الاقتصاد يقود القاطرة السياسية الخليجية والعربية

لا يمكن انكار حقيقة أن التوجه نحو الصبن يعتبر رسالة لأمريكا وأوروبا بأن لدول الخليج والعالم العربي خيارات مستقلة تهدف لكسب الفرص وتحقيق مصالحها الاقتصادية المستحقة بعيدا عن أي ضغوط.

فلا يمكن استبعاد تعرض دول الخليج لضغوط غربية متفاقمة منذ اندلاع الأزمة الروسية الأوكرانية، فباعتبار أن الصراع الدولي احتدم في مجال الطاقة وتأمينها ومعاقبة روسيا عبر حظر وارداتها، انصب الاهتمام على التفاوض مع بلدان مجلس التعاون النفطية لتعويض النقص في الامدادات. هذا الخيار الغربي لم تنصع اليه دول الخليج بالشكل المطلوب، حيث كان لها خياراتها الاقتصادية الخاصة والتي انفتحت على علاقات ومصالح أعمق وأشمل مع الصين وغيرها من الشركاء الدوليين، اذ تحكم توجهات الدول الخليجية المصلحة المشتركة.

في هذا الصدد، قامت دول الخليج بقرع جرس انذار سياسي بامتلاكها لحرية خياراتها الاستراتيجية ورفض التدخل في شؤونها أو فرض خيارات عليها. حيث ترفض الضغط الأوروبي والأمريكي المستمر خاصة في مسألة الطاقة. ومن البديهي أن الغرب غير سعيد بالتقارب العربي الصيني أو أي تعاون خليجي روسي. حيث تسعى دائما لربط دول الخليج في المحور الأمريكي الأوروبي.

بالنسبة للسعودية فقد قامت بنقطة تحول مضيئة في مسار العلاقات الديبلوماسية الدولية في ظرفية تغلب عليها الأزمات والتوتر وذلك عبر استضافتها للقمة العربية الصينية التي تهدف لاستكشاف فرص التعاون وتعزيز قوة المحور المحايد الساعي لتحقيق الازدهار والسلام دون الاصطفاف لآية محاور أخرى. وهذا المسار يمكن وصفه برؤية عربية للموائمة والموازنة للعلاقات الدولية. وقد حصلت السعودية على دعم والتفاف عربي من أجل دعم صعود محور القوة العربية وفرض خياراتها ومصالحها في الساحة الدولية.