بقلم رئيس المركز د. فهد الشليمي
بتبادل محتمل للسفراء قريباً، قد تكون المرحلة الأولى لاستئناف العلاقات الإيرانية السعودية باهتة ورسمية ويطغى عليها الطابع البروتوكولي والمجاملات. وقد تكون أيضا مرحلة جسّ النبض واختبار صدق النوايا. الا أن هناك عراقيل جوهرية قد تعيق مسار التطبيع الكامل للعلاقات.
في حين لا تستبعد التكهنات أن يكون التقارب الايراني السعودي تكتيكياً وليس استراتيجياً. الا أن الاتفاق الدبلوماسي الذي توسّطت فيه الصين في مارس من العام الجاري، من أجل رسم خارطة طريق لتطبيع العلاقات بعد سبع سنوات من القطيعة يحمل الكثير من الآمال والتحديات في نفس الوقت وسط بعض التشكيك من مصلحة ايران من التقارب من السعودية ورفع مستوى العلاقات مع بقية دول الخليج.
التوافق الإيراني مع موقف السعودية حول دعم مقاربة أمنية في الشرق الأوسط وتعزيز المصالح الاقتصادية المشتركة خاصة بوجود شريك توافقي مع الطرفين وهو الصين يبدو توافقا هشَا اذا تعلق الأمر بالقضايا الجوهرية. بكين التي تحرص على لعب دور سياسي عالمي مهتمة جدا بانجاح وساطتها بين ايران والمملكة، حيث تشرف على التنسيق مع الايرانيين والسعوديين من أجل تقارب مثمر في ظل رغبة اشراكهما وبقية دول الخليج في مشروع خط الحرير الذي تعول عليه بكين من أجل نهضتها التجارية والاقتصادية عالمياً. لكن رغم الطموح الصيني بقدرته على رأب الصدع بين إيران وجيرانها الخليجيين، الا أن العوائق كبيرة وعميقة ومتجذرة.
العراقيل المتجذرة والخلافات العقائدية والسياسية
توجد بعض المبالغة في تأمل زوال كل الخلافات خاصة العقائدية والأيدولوجية والسياسية بين إيران والسعودية بعد اعلان مسار التوافق بينهما الذي قد يكون مؤسساً على كسب مصالح مؤقتة خاصة في مجال الأمن والاقتصاد مع سعي لإعادة التموقع والتحالفات في ظل الصراع المحتدم بين القوى العظمى حول احتمالات تشكل نظام عالمي جديد متعدد الأقطاب.
الخلافات بين إيران والمملكة في الواقع أكثر تعقيدًا وأعمق جذورًا. كما أن الصراع ليس بسيطا أو مدفوعًا بالطائفية أو التوترات الشيعية السنية فقط والتي شكلت وجهة نظر الدولتين وسياساتهما في الشرق الأوسط.
من بين عناصر الاختلافات الجوهرية بين البلدين برز اختلاف طبيعة النظم السياسية، فالنظام السعودي ليس نظامًا ثيوقراطيًا مثل إيران، بل هو نظام ملكي بهيكل مختلط منفتح على قيم الدولة المدنية الحديثة. في المقابل، مثلت الطائفية المكون الرئيسي لنظام الخميني الثوري، وهي منصوص عليها في الدستور الايراني لتأكيد طموحات إيران الجيوسياسية الخاصة بالهيمنة.
لذلك فان مساحات التنافس أكثر من مساحات التوافق في المدى القريب، خاصة في ظل عدم ابداء النظام الإيراني أي رغبة في تغيير جذري لمنظومته القائمة على العقيدة الثورية والهوية الدينية.
فعلى عكس إيران، عندما أصبحت الهوية الدينية غير متوافقة مع رؤية المملكة العربية السعودية 2030 وتطورها، احتضنت المملكة بدلاً من ذلك قيم الدولة القومية المدنية الحديثة المحافظة على هويتها العربية الإسلامية ورمزيتها الدينية، لكن في المقابل دعمت إيران تعزز هويتها الطائفية، لأن أي تغيير أو انفتاح سيعني انهيار النظام الإيراني ومشروعيته[1].
استراتيجية إيران الأيديولوجية
بعد ثورة 1979، غيّر نظام الخميني الدولة في إيران من علمانية إلى دولة ثيوقراطية أصولية، مما مهد الطريق لفترة تاريخية مظلمة في المنطقة تركزت على قيام إيران بتضخيم الخلافات الطائفية في المنطقة لعقود طويلة[2].
ورغم تحديث الدولة الإيرانية وتبني مبادئ الجمهورية، الا أن الأساس الصلب لها بقي متمثلاً في ركيزة الثورة كفكرة وهدف. بل ان شعار “الجمهورية” في الدولة الإيرانية هو ببساطة وسيلة لدعم الثورة وإكمالها وليس لتعزيز مدنية الدولة ومأسستها. وفي مثل هذه القيم تختلف تماما السعودية وبقية الدول الخليجية الساعية لتحديث أنظمتها ومؤسساتها ومواكبتها للتطور والحداثة.
على سبيل المثال، المرشد الأعلى هو قائد الثورة وليس قائد الجمهورية، والحرس الثوري الإسلامي (IRGC) أقسم على الدفاع عن بقاء فكرة الثورة وحمايتها. لذلك، منذ إنشاء الجمهورية الإسلامية في عام 1979، سعى النظام الايراني إلى تصدير أيديولوجيته الثورية سعياً لبسط النفوذ والهيمنة في جميع أنحاء العالم الإسلامي وخاصة في دول الجوار ومنطقة الخليج العربي تحديدا.
وفي حين قد تتفق إيران والسعودية في مبدأ رفض الهيمنة الأجنبية على مصالح الخليج، فان التعامل مع القوى الدولية وان يعتمد الندية والوقف على مسافة واحدة بالنسبة للرياض، فان طهران تعتمد في رفض نفوذ الولايات المتحدة على الشعارات الأكثر عدوانية وشعبوية. الى ذلك ترفض طهران بشدة تطبيع علاقات دول الخليج مع اسرائيل. لذلك فان تقييم عوامل التهديد مختلف بين إيران وجيرانها الخليجيين.
تحافظ إيران على ركيزتين لسياستها الخارجية: أولاً فكرة “الطائفية” والتي سمحت بوجود صراع مذهبي تاريخي في المنطقة، وثانياً فكرة “المقاومة” من خلال الترويج للدفاع عن القضية الفلسطينية ومعارضة الإمبريالية الغربية وبشكل أساسي مخططات الهيمنة الأمريكية في المنطقة. ومن أجل تنفيذ طموحاتها الجيوسياسية اعتمدت إيران على استراتيجيات القوة الصلبة والناعمة.
فيما يتعلق بالقوة الصلبة، تقدم إيران الدعم المالي والأيديولوجي والمادي للجماعات غير الحكومية للمساعدة في تعزيز مصالحها الاستراتيجية، ولا سيما الميليشيات الشيعية المسلحة في لبنان والعراق وسوريا واليمن، وكذلك حزب الله وقوات الحشد الشعبي في العراق، والحوثيين في اليمن، وكذلك الجماعات السنية، مثل الجهاد الإسلامي الفلسطيني وحماس.
أما قوتها الناعمة فهي تستخدم آلة الدعاية الخاصة بها فضلا عن توظيف الجامعات والمنظمات الخيرية والمبادرات التي ترعاها الحكومة والأنشطة الثورية الدولية من أجل نشر الأيديولوجية الخمينية المناهضة للغرب في الداخل والخارج والتي تعتمد تحريض الشعوب على الانتفاض لدعم الأفكار التحررية الثورية. ونظرًا لأن الأيديولوجية الثورية لنظام الخميني معادية للملكية، لطالما استخدمت إيران سياستها الخارجية لإحداث اضطرابات في دول الخليج العربي[3]، لكن دول الخليج وفي مقدمتها السعودية والبحرين والامارات اعتمدت سياسة ضبط النفس واستجابت بطرق سلمية مختلفة على مر السنين في مواجهة هذه التهديدات متمسكة بالحوار لحل الخلافات. فهل تكون هناك مساحات أعمق للحوار بين الإيرانيين والخليجيين لحل الخلافات الجوهرية بعيدا عن دبلوماسية المجاملات والمصالح المؤقتة؟
المراجع:
[1] Najat AlSaied, Sectarianism and ideology: The cases of Iran and Saudi Arabia, MEI, August 27, 2021, https://www.mei.edu/publications/sectarianism-and-ideology-cases-iran-and-saudi-arabia
[2] FREDERIC WEHREY, Sectarian Politics in the Gulf: From the Iraq War to the Arab Uprisings, Columbia University Press, December 17, 2013, https://carnegieendowment.org/2013/12/17/sectarian-politics-in-gulf-from-iraq-war-to-arab-uprisings-pub-53841
[3] Shahram Chubin, Iran and the Arab Spring: Ascendancy Frustrated, GRC GULF PAPERS, September 2012, https://carnegieendowment.org/files/Iran_and_Arab_Spring_2873.pdf