دول الخليج ومفهوم جديد للديمقراطية البراغماتية

بقدر تحقق التنمية والرفاه تتعزز فرص ارساء آليات الديمقراطية الناجعة أحداث مهمة

9 يوليو، 2023


ادارة الأبحاث

MenaCC

الكويت، 9 يوليو 

الملخص: أنتجت الديمقراطيات التقليدية في الغرب تفاوتاً طبقياً صارخاً. ما يدل عن وجود عطب في آليات عملها وتوظيفها، حيث استفادت النخب أكثر من غيرها من آليات عمل الديمقراطية في مفاهيمها التقليدية. لكن دول أخرى صاعدة في منطقة الخليج تجتهد لتحقيق مقاصد الديمقراطية بأساليب مختلفة.

لطالما نشأت فكرة مفادها بأن التنمية والرفاه مقياس نجاعة أي ديمقراطية في العالم. فبقدر تحقق التنمية والرفاه في الدول تتعزز فرص ارساء آليات الديمقراطية الناجعة وتترسخ كثقافة وممارسة بين الأفراد. فشعب يعيش الرفاه ولديه آفاق تنموية واعدة يعتبر أكثر تقبلاً لتبني قيم وأفكار الديمقراطية بشرط أنها هادفة لتحقيق مبادئ المساواة والعدالة والحرية وبناء مقومات دولة الحداثة والقانون والمؤسسات.

بعض دول الخليج تراهن على تحقيق مقاصد الديمقراطية عبر منح أولوية خلق بيئة تنمية مثالية، وتطوير بنية تحتية للدولة وتنظيم الشراكة بين القطاع العام والخاص بالإضافة الى خلق فضاء مناسب لتطبيق مبادئ العدالة والحرية والمساواة عبر أولوية مكافحة الفساد والبيروقراطية. ومن المحتمل أن بعض الحكومات الخليجية قد تنفتح على تحديثات أخرى لبيئتها المستقبلية من أجل رفاه مواطنيها، ومن غير المستبعد أن تتعزز تدريجيا الممارسة والأفكار الديمقراطية الهادفة بشرط اثبات جدواها على المجتمع مع تجنب تهديد الاستقرار والنظام.

وتصدرت دول مجلس التعاون الخليجي قائمة الدول العربية أكثر استقرارا على مستوى أنظمتها السياسية ومتانة الدولة فيها[1]. وهو ما مكّن من زيادة فاعلية الحكومات في تنفيذ برامج إصلاحات استباقية لمواكبة تغير تطلعات شعوبها. كما منحت سياسات حكومات بعض الدول الخليجية أولوية دعم رفاه المواطنين. ولطالما ارتبطت دولة الرفاه بالبيئة المثالية لازدهار الديمقراطية[2].

ولطالما نشأ الرابط النظري بين مستوى التطور في بلد ما واحتمال أن يكون ديمقراطياً، فـ”كلما كانت الأمة أكثر رفاهية، زادت فرصها في الحفاظ على الديمقراطية” (Lipset 1959، 75). بدون شك، أصبحت هذه الفكرة منذ ذلك الحين حكمة تقليدية[3] ومقياس لجدوى وظيفة عمل الديمقراطية.

وفي حين ركزت سياسات بعض الدول العربية على اجراء إصلاحات هيكلية لدعم التحول الديمقراطي والاستفادة منه دون جدوى، اهتمت دول عربية أخرى خاصة الخليجية منها بتحسين مناخ ممارسة الحريات بشكل انتقائي، الى جانب دعم جودة الحياة ورفاه الفرد، وتعزيز المشاركة الشعبية في مراكز صنع القرار خاصة فئة الشباب[4]، وبهذه الإنجازات التي حققتها خاصة بها بعض دول الخليج، وذلك ضمن رؤى تنموية مستقبلية واعدة أعلنتها حكومات خليجية، بات من الممكن ملاحظة انفتاح خليجي مشروط ومدروس على تبني مفهوم جديد للديمقراطية البراغماتية والانتقائية الفاعلة من أجل حداثة الدولة[5]. يحدث هذا الانفتاح كدليل على تبني مقومات الدولة الحديثة مستقبلاً وكبديل عملي عن التقيد بفكرة الديمقراطية الليبرالية والشكلية التي يصفها البعض بالوهمية والتي لا تتناسب مع معايير المساواة والعدالة والرفاه كقيم مفقودة حتى في أعرق الديمقراطيات في العالم بسبب اخلالات وظيفية.

وعلى عكس الديمقراطيات الليبرالية التي تمنح دورا أكبر للنخب وللقطاع الخاص في شتى المجالات ما أوجد عدم توزان وتوسع الهوة بين الطبقات ووجود تحديات الفقر والتهميش فضلا عن مخاطر ضعف تحقق المساواة والعدالة بين الافراد وتفاوت وصولهم للرفاه، تحافظ على العكس بعض حكومات الخليج على وجود حضور فعال وكبير للدولة مع تفاوت في مجالات الخدمات والإدارة والقطاعات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، ويبرز حضور الدولة المانحة كراع وضامن لاستفادة جل المواطنين من الحقوق الأساسية واتاحة افضل الظروف لتحقق مبادى المساواة والعدالة بين جل المواطنين فضلا عن لعب الدولة دورا كبيرا في توعية مواطنيها باحترام القيم الديمقراطية كحق الاختلاف وممارسة الحريات[6] في نطاق آمن لا يهدد الاستقرار والنظام. الى جانب منح أهمية مطلقة لدعم مبدا استقرار النظام السياسي وتجنب مخاطر الأفكار الداعية للفوضى وعدم الاستقرار والتغيير غير المدروس.

ورغم انتقاد بعض الدراسات الغربية لرؤية بعض الدول الخليجية لفكرة الدمقرطة بدعوى تعزز مخاطر وقوع الحكومات في الوصاية على حق تقرير الشعوب لمصيرها، الا ان دراسات أخرى تثبت أن سعي الحكومات الخليجية لتحقيق الرفاه ومبدأ العدالة والمساواة في مجتمعاتها يعتبر في حد ذاته أسمي اهداف وظيفة المنظومة الديمقراطية الناجزة. وحيث باتت تتفوق بعض دول الخليج حتى على دول غربية في مجالات متعلقة برفاه المواطن وازدهار آفاقه، عجزت بعض الديمقراطيات الليبرالية الغربية في كل من أوروبا والولايات المتحدة عن تحقيق القيم العدالة والمساوة والرفاه لكل افراد مجتمعها، حيث تعيش هذه الديمقراطيات أزمة حقيقية بفضل محدودية جدواها وزيادة مطالب تطوير آلياتها ومقاصدها.

عربياً، في حين تعترف دول كثيرة بالسعي الحثيث لتركيز بيئة العمل الديمقراطي وتقنين معايير النظم الديمقراطية، الا أن تطبيقات هذه المعايير على أرض الواقع في بعض الدول اما معطلة أو مقيدة أو تأثيراتها الإيجابية على المجتمع والفرد محدودة.

في الأثناء، تنحرف سياسات بعض الحكومات عن مقاصد الديمقراطية الهادفة للتنمية. هذه المقاصد طورتها في المقابل بعض الدول الأخرى ونجحت في تحسين بيئة الحريات وترسيخ دولة القانون والمؤسسات وتفعيل نظم المحاسبة والرقابة وانفاذ مبادئ العدالة والمساواة والقانون[7] مع دعم هيبة الدولة. وهي معايير الدول الحديثة التي تزدهر فيها مقومات الديمقراطية المرتبطة بتحقيق التنمية المستدامة[8].

راهنت دول عربية خاصة في منطقة الخليج العربي على تعزيز مجتمع مدني فاعل يعمل على زيادة التحسيس بالوعي السياسي ودور الفرد الإيجابي في النهوض بالتنمية والمشاركة الفاعلية في اتخاذ القرار، كما سمحت بزيدة تواجد مراكز الفكر التي تنتقد سياسات وممارسات الحكومات وتقدم التوصيات، ولعبت بعض مؤسسات المجتمع المدني أدوار توعية واستشارية من أجل زيادة محاربة المظاهر السلبية كالفساد وسوء الإدارة ودعم وظيفة الحكومات في الإدارة والرقابة وزيادة نجاعة السياسات التنموية. فمجتمع واعي قد يكون بديلاً نموذجياً لمنظومة ديمقراطية مجمدة أو مفتتة أو غير فاعلة أو غير متجانسة. هذا المسار سلكته بعض دول الخليج في ظل رؤى تنموية طموحة مستقبلية. الامارات وقطر والكويت والسعودية وبقية دول مجلس التعاون على اختلاف أولوياتها، حرصت على دعم نشاط النسيج الجمعياتي في مختلف المجالات ودعمت بتفاوت إصلاحات مختلفة من أجل النهوض بممارسة الحريات واستفادة المجتمع بإيجابياتها وتقليص مخاطرها وتخفيف القيود أمام ازدهارها ما دامت تخدم الصالح العام ولا تقوض الأمن والسلم الاجتماعي.

دول الخليج وتطوير مفهوم براغماتي للديمقراطية التشاركية

الديمقراطية التمثيلية هي اشراك الشعب في صنع القرار السياسي بطريقة مباشرة أو غير مباشرة. وبسبب الاختلاف حول رؤية تطبيقاتها على الأرض والجدوى منها تشهد الديمقراطية التمثيلية أزمة حادة في العالم وفي الدول العربية. فالديمقراطية التمثيلية أثبتت بجدارة عجزها عن تحقيق الغاية التي وجدت من أجلها العدالة. وباتت حسب بعض الدراسات توصف بالديمقراطية الوهمية.

وعلى عكس مفهوم الديمقراطية الوهمية، استثمرت عدد من دول الخليج في تطوير مفهوم جديد للديمقراطية البراغماتية من خلال تعزيز فكرة الديمقراطية المحلية كفكرة حديثة، هذه الفكرة أخذت منحى آخر في السنوات الأخيرة، عن طريق أقلمة وتطوير نظام التمثيل والمداولة، وتكريس مبدأ المشاركة، الأمر الذي سمح بإعادة تشكيل المجال المحلي وبعث النقاش الديمقراطي[9]، وهذا ما سعت بعض الدول العربية لتعزيزه وتطوير مفهوم المشاركة الشعبية في تعزيز مفهوم الدولة الحديثة. وعملت بعض دول الخليج خاصة بالاستفادة من الموارد المحلية على الاستثمار في تنمية وعي وثقافة الموانين واشراكهم في صنع القرار على المستوى المحلي، وبات الحديث عن التحول من الديمقراطية التمثيلية الى تعزيز الديمقراطية التشاركية. حيث تحسنت مستويات اشراك المواطنين في المجالس المحلية ومجالس الشورى ومراكز اتخاذ القرار الاقتصادي والسياسي.

الديمقراطية كقيمة وهدف تعتبر غير ثابتة عبر الزمن وتعمل في واقع متحرك ومتغير. وفي حين تعيش أزمة في بعض الدول الغربية والمتقدمة، سعت دول أخرى لإرساء تجاربها الديمقراطية الخاصة. بعض دول الخليج على سبيل المثال سعت لزيادة تشريك أفرادها في مجالات صنع القرار السياسي، وذلك عبر دعم التمثيل الشعبي في المجالس المحلية ومجالس الشورى والمناصب القيادية في الهيئات الحكومية ومنظمات المجتمع المدني. وبذلك، فان الإصلاحات الانتقائية التي قامت بها دول الخليج في مجال العمل السياسي، لم تفرغ الديمقراطية من قيمتها بل دعمت أسسها الحقيقية والتي تهدف لدعم تنمية الفرد والمجتمع وممارسة الحريات والمشاركة المسؤولة في صنع القرار.

تعطل الديمقراطية الهادفة في بعض الدول العربية

منذ سنوات تشهد العملية الديمقراطية الهادفة للبناء والتنمية اخلالات في عدد من الدول العربية وتبتعد عن تحقيق تطلعات الشعوب بالتنمية والازدهار. حيث أن دولاً كثيرة أقرت النظم الديمقراطية التقليدية وشيّدت المؤسسات التي تستجيب لمعايير الدول الحديثة، الا أن تطور العمل الديمقراطي فيها خاصة الهادف للتنمية وتعزيز جودة حياة الفرد استمر معطلاً ومجمداً بسبب قيود كثيرة ومحدودية تطبيق المعايير الديمقراطية في الممارسة الفعلية للسلطة.

في المقابل بعض الدول الأخرى في العالم العربي استطاعت تطويع البناء الديمقراطي من أجل دعم الازدهار والتنمية لصالح تحسين جودة حياة الأفراد والمجتمع، وهو ما انعكس إيجاباً على التنمية والابتكار والصحة والعمل والبيئة والاقتصاد[10].

الديمقراطية “الهادفة” أو “الناجزة” قد تتناقض مع الديمقراطية في مفهومها الاصطلاحي المقتصر على تطوير العمل السياسي وإصلاح النظام السياسي القائم على تقنين الانتخاب والتداول السلمي على السلطة والفصل بين السلطات الى جانب دعم حرية التعبير والمشاركة الحرة في العمل السياسي. فالبناء الديمقراطي لا يمكن أن يستقيم في بيئة طاردة للتنمية وفي واقع يغلب عليه البؤس وترتفع فيه مؤشرات الفقر والتهميش والبطالة والأمية والعنف. فبدون تحسين هذه المؤشرات أثبتت التجارب أنه يصعب ملاحظة أي فعالية للعمل الديمقراطي المقتصر على تنظيم المجال السياسي.

وتطمح مقاصد أي دولة ديمقراطية لتحقيق الرفاه والازدهار والعدالة والمساواة في المجتمع[11]. وهذا المسار نجحت في تحقيق مقوماته عدد محدود من الدول الخليجية والشرق الأوسطية والمغاربية. بعض الدول الأخرى اما في بداية الطريق أو انها متعطلة لأسباب اقتصادية واجتماعية أو لاختلاف الرؤى حول أولويات التغيير والتنمية المستقبلية وملامح دولة المستقبل.

تعتبر بعض الدراسات ان الديمقراطية ممارسة لحق الاختلاف وابداء الراي ولكن في مفهومها الأعمق هي قاطرة لتنظيم إدارة الشأن السياسي وترسيخ مفهوم المواطنة القائم على تركيز دولة القانون والمؤسسات[12] لخدمة الصالح العام ودعما لوحدة البلاد والتنصيص على مبادئ العدالة والحرية والمساواة.

 

2023 ©  مركز الشرق الأوسط للاستشارات السياسية والاستراتيجية MenaCC

 

المراجع:

[1] أنظر المؤشرات في الجدول
[2] Dietrich Rueschemeyer, Tilly Charles, Clem and Manza Jeff,  Democracy and Social Welfare, Chicago, IL: The University of Chicago Press, 2007. Volume 37, Issue 5, https://doi.org/10.1177/009430610803700506
[3] ETH Zurich, Franziska Deutsch, Julian Wucherpfennig, Modernization and Democracy: Theories, September 2009, http://www.livingreviews.org/lrd-2009-4
[4] أنظر المؤشرات في الجدول
[5] أنظر المؤشرات في الجدول
[6] أنظر المؤشرات في الجدول
[7] أنظر المؤشرات في الجدول
[8] أنظر المؤشرات في الجدول
[9] عيســاوي عزالدين، الديمقراطية المحلية: من الديمقراطية التمثيلية إلى الديمقراطية التشاركية، Revue Académique de la Recherche Juridique، Volume 6, Numéro 2, Pages 212-230

2015-12-30
[10] أنظر المؤشرات في الجدول
[11] أنظر المؤشرات في الجدول
[12] Sebastian Enskat, M.A, Democracy and Law, https://www.kas.de/en/democracy-and-law